للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُدَوَّنَةِ على طَريْقَةِ أهْل المغرب في المَالكِيَّةِ، فرَحَل النَّاسُ للسَّمَاع منه من أقْطَار الأنْدَلُسِ والمَغْرب.

وتُوفِّيَ على إثر ذلك كَنِيُّهُ وسَمِيُّهُ أبو عليّ حُسَين بن مُحَمَّد الغَسَّانِيّ الحافِظُ المَعْرُوف بالجَيَّانِيّ، شَيْخُنا وآخر المُسْندِين بقُرْطُبَةَ، وأضْبَط النَّاسِ لكتابٍ ورِوَايَةٍ، فانْفَرَد بعد وَفَاته بِالإمَامَة في الحَدِيْث بالأنْدَلُسِ، وكَثُرَ الرَّاحلُونَ إليهِ، وغصَّ مَجْلسُه واسْتَوْفَتْ نُوَبُ السَّامِعيْن منه أجْزاء نَهَاره وكَثِيْرًا من لَيْلِهِ، وتَنَافس النَّاسُ في الأخْذ منه، والحَمْلَ عنه، وشاركَ فيه الأكَابِرَ الأصَاغِرُ، وكِان صَابِرًا على ذلك مُحْتَسِبًا فيهِ، ولم يَزَل يَزْدَادُ على مَرِّ الأيَّام مَعْرفَةً وحِفْظًا ووَرَعًا وجَلَالَةً ومَنْزِلةً من قُلُوب النَّاسِ، مع حُسْنِ خُلُقه وتَوَاضُعهِ، وجَمِيلِ عِشْرَتهِ، حتَّى بَذَّ ذِكْرهُ جميع طَبَقَات الأَجَلَّاءِ، وأقَرَّ بفَضْلِهِ جميعُ الفُضَلَاءِ، وبَعُدَ صِيْتُهُ من بين العُلَمَاءِ.

ثُمَّ طلبَ أهْلُ مُرْسِيَةَ وشَرْقِ الأنْدَلُسِ من أمير المُسْلمِيْن أبي الحَسَن علِيّ بن يُوسُف بن تَاشِفِيْن أنْ يُقَلِّده قَضَاءَهم، فقَلَّدَهُ ذلك في رَبِيع الآخر سَنَة خَمْسٍ وخَمْسِمائَة، فامْتَنَعَ منه، وخَرَجَ إلى المَرِيَّةِ فارًّا بنَفْسِهِ، وترردَّدت إليهِ كُتُب أمير المُسْلمين ورُسُلهُ، وألْزمَ إشْخَاصَهُ إلى مُرْسِيَة، وشَدَّد في الأمْرِ، فنَهَضَ إليها على كُرْه مُتَقلِّدًا قَضَاءها وقَضَاءَ قُضَاةِ الشَّرْق بها، فلَزم هذا العَمَل، مَحْمُود السِّيْرَةِ، قَائمًا بالحقِّ إلى أن عَزَلَ عن القَضَاءِ نَفْسَهُ، واخْتَفَى، ووَرَدَت كُتُب السُّلْطان برجُوعهِ إلى القَضَاءِ وهو يَأبَى، وبَقِيْت الحالُ هكذا أشهُرًا، وكَتَبَ الطُّلَّابُ والرَّحَّالُونَ كِتَابًا يَشْكُون فيهِ إلى أمير المُسْلِمين حالَهُم، ونَفَاد نَفَقاتهم، وانْقِطَاعَ آمَالِهم، فسَعَى له قاضي الجَمَاعَة عند أمير المُسْلِميْن، وبيَّن له وَجْهَ عُذْره إلى أنْ أَسْعَفَ رَغْبَتَهُ، وظَهَرَ للنَّاسِ.

ولمَّا وجَّهَ أميرُ المُسْلِمِيْن الجُيُوشَ إِلى الثَّغْرِ مع أخيهِ إبْراهيم سَنَة أرْبَع عَشرة، خَرَجَ فيمَن خَرَجَ من المُطَّوِّعَة، فلمَّا جَرَت على المُسْلِمِيْن الهَزِيمَةُ المَشْهُورة بقُتُنْدَةَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>