يا مُوسَى، وطِّن نَفْسَك على الصَّمْت تُلَقَّى الحِكْمَة، وأَشْعِر قَلْبكَ التَّقْوَى تَنَل العِلْم، ورُضْ نَفْسَكَ على الصَّبْر تَخلُصْ من الإثْم.
يا مُوسَى، تَفَرَّغْ للعِلْم أنْ كُنْتَ تُريدُه؛ فإنَّما العِلْمُ لمَنْ تَفَرَّغ له، ولا تَكُونَنَّ مُكَاثِرًا بالمَنْطِق مِهْذَارًا، فإنَّ كَثْرة المَنْطِق يَشِيْن العُلَمَاء، ويُبْدي مَسَاوِئ السّخَطِ، وليكن عليك بالاقْتِصادِ، فإنَّ ذلك من التَّوْفِيق والسَّدَاد. واعْرض عن الجَاهِل، واحْلُم عن السُّفَهاء، فإنَّ ذلك فَعَال الحُكَمَاءِ، وزَيْن العُلَمَاءِ، وإذا شَتَمكَ الجَاهِلُ فاسْكُت عنه حلْمًا، وجَانبْهُ حَزْمًا، فإنَّ ما بقي من جَهْلهِ عليكَ وشَتْمه إيَّاكَ أكْثَر وأعْظَم.
يا ابن عِمْرانَ، ولا ترى أنَّكَ أُوتيتَ من العِلْم إلَّا قَليلًا فإنَّ الانْكلافَ (a) والتَّعَسُّفَ من الاقْتِحام والتَّكَلُّف.
يا ابن عِمْرانَ، لا تَفْتَحنَّ بابًا لا تَدْري ما غَلْقُه، ولا تُغْلقنَّ بابًا لا تَدْرِي ما فَتْحُه.
يا ابن عِمْرانَ، مَنْ لا تَنْتَهي من الدُّنْيا نَهْمَتُه، ولا تَنْقَضي منها رَغْبَتُه، كيف يَكُون عَابِدًا!؟ ومَنْ يَحْقِر حَالَهُ، ويتَّهمُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ فيما قَضَى له، كيف يكُون زَاهِدًا!؟ هل يكُفّ عن الشَّهَواتِ مَنْ قد غَلَبَ عليه هَوَاهُ؟ أو يَنْفَعُه طَلَب العِلْم والجَهْل قد حَوَاهُ؟ لأنَّ سَفَره إلى آخرته وهو مُقْبِلٌ على دُنْياه.
يا مُوسَى، تَعَلَّم ما تَعَلَّمْتَ لتَعْمَل بهِ، ولا تَعَلَّمه لتُحَدِّث بهِ، فيكُون عليك بُوره، ويكُون لغيركَ نُوره.
(a) كذا في الأصل، ولم أقف على معناه في معاجم اللغة، وترد فيما بعد -في رواية أخرى-: الاندلاث: ومعناه التقدُّم.