للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان يَزُور عَمِّي أبا غَانِم، وكُنْتُ اجْتَمع به عندَهُ في المَسْجِد المَعْرُوف بنا، فلم أتحقَّق ما سَمِعْتُه منه، فإنَّهُ كان يُورد أشْيَاء حَسَنةً، لَم أتحقَّق منها إلَّا مَنامًا ذَكَرهُ له، وكان حَضَرِ لوَدَاعه وهو يُريدُ الحَجّ، وذَكَره لعَمِّي وأنا أسْمَعُ، قال: رأيْتُ كأنَّ امْرأهً وابْنَتها حضَرتا، وقد وَطئتُ البنْتَ وعَزَمْتُ على وَطْء الأُمّ، وذَكَرَ ذلك لعَمِّي على وجْهِ أنَّ المَنَام قد تحقَّق لشرُوْعه (a) في التَّوَجُّه إلى الحجَّ.

فَمضَى إلى الحجَّ ودَخَلَ المَدِينَة، فسَيَّرَ المَلِكُ العادِل أبو بَكْر بن أيُّوب ورَدَّه من الطَّريق من بَدْر خَوْفًا أنْ يَدْخُل اليَمَن ويملكَها، فتوسَّل إلى مَنْ حضَر لردِّه أنْ يؤخَذ تحت الحَوْطَة والتَّضْييق حتَّى يَقْضي حجّه، فلَم يُجِيْبُوه إلى ذلك.

وعادَ إلى حَلَب واجْتَمَع بعَمِّي ووَالدي وأنا معهما، وذكَّرهما بالمَنَام الّذي قصَّهُ علينا لمَّا ودَّع عَمِّي، وقال: الأمُّ هى: مكَّة أُمّ القُرَى، والبنْتُ: المَدِينَة، ووَطئتُ المَدِينَة وهى البنتُ، ولَم يَتَهيَّأ لي وطء الأُمّ وهى مَكَّة، وكان هذا من أعْجَب المَنَامات الّتي (b) تحقَّقَ تَأويْلها.

وكان جَوَادًا، سَخِيًّا، شُجَاعًا، عَارِفًا بالتَّوَاريخ وأيَّام النَّاس، وكان من جِلَّة بني المَلِك النَّاصِر يُوسف بن أيُّوب، وكان يُنْبَزُ بالمَلِك المُشَمَّر، بحيث أنَّهُ غَلَبَ على لَقَبهِ المَلِك الظَّافِر، وبَلَغَني أنَّهُ إنَّما غَلَبَ عليه هذا اللَّقَب لأنَّ أباهُ قَسَّم البِلاد على أكَابِر إخْوَته، فقال: وأنا مُشَمَّرٌ!؟ فغَلَبَ عليهِ المُشَمَّر، وهُجِرَ ما سوَاهُ.

وأقَامَ بحَلَب عند أخيهِ المَلِك الظَّاهِر غَازِي سنين عدَّة، وسَكَنَ باليَارُوْقِيَّة ظَاهِر حَلَب، وابْتَنَى بها مَنَازِل وحَمَّامًا، فلمَّا مَرضِ المَلِكُ الظَّاهِر مَرْضَتهُ الّتي تُوفِّي فيها، خافَ منه على ابنه المَلِك العَزِيز مُحَمَّد، فأمَر برحِيْله من حَلَب، وأقْطَعَهُ إقْطاعًا حَسَنًا مُضَافًا إلى ما كان له عليه، فتَوَجَّه إلى منْبج، وماتَ المَلِكُ الظَّاهِر، فلَم يتمّ


(a) الأصل: لسروعه.
(b) الأصل: الذي.

<<  <  ج: ص:  >  >>