جِيْجِك (a)، ونَزَل الفِرِنْج على أنْطَاكِيَة، وشَنُّوا الغَارَات على بَلَد حَلَب، ووَصَلَ ابن يَغِي سغَان إلى حَلَب مُسْتَنْجِدًا على الفِرِنْج، فسَيَّرَ رِضْوَان معَهُ عَسْكَر حَلَب وسُكْمَان، فلَقِيَهُم من الفِرِنْج دُون عُدَّتهم، فانْهَزَم المُسْلُمون إلى حَارِم، وغَلَبَ أهْلُ حَارِم من الأرْمن عليها، وعاد سُكْمَان بن أُرْتُق مُفَارِقًا رِضْوَان، وصار مع دُقَاق.
واسْتَولَى الفِرِنْج على أنْطَاكِيَة، وضَعُفَ أمْر رِضْوَان، واسْتَمال البَاطِنِيَّة وظَهَرَ مَذْهَبهُم بحَلَب، وشَايَعهم رِضْوَان، واتَّخَذُوا دَارَ دَعْوة بحَلَب، وكَاتَبه مُلُوك الإسْلَام في أمْرهم، فلم يَلْتَفتْ، ولَم يَرْجع عنهم، ودامَ على مُشَايعتهم.
وقَوي الفِرِنْج عليهِ، فباعَ من أمْلَاك بَيْت المَال عدَّة مواضع للحَلَبيِّيْن، وقَصَدَ بذلك اسْتِمَالتهم، وأنْ يَتَعلَّقُوا بحَلَب بسَبَب أمْلَاكهم فيها، حتَّى أنَّهُ بَاعَ في سَاعةٍ واحدةٍ ستِّين خِرْبَة من مَزَارِع حَلَب لجَمَاعَةٍ من أهْلها، وكُتِبَ بها كتابٌ واحدٌ، يَذْكُر حُدُود كُلّ خِرْبَة ومُشْتريها وثَمَنها. وكان الكِتَاب عندي في جُمْلَة الكُتُب الّتي كانت لوالدي رَحِمَهُ اللهُ.
وكان المَلِك رِضْوَان بَخِيْلًا شَحِيْحًا يُحبُّ المال، ولا تَسْمَح نَفْسَه بإخْرَاجهِ، حتَّى أنَّ أُمَرَاءه وكُتَّابه كانُوا يَنْبزُونَهُ بأبي حَبَّة، وذلك هو الّذي أضْعَفَ أمْرَهُ، وأفْسَدَ حالَهُ مع الفِرِنْج والبَاطِنِيَّة، وجَدَّد في حَلَب مُكُوسًا وضَرَائب لَم تكُن، ومع هذا كُلّه كان فيه لُطْفٌ ومُحَاسَنَةٌ للحَلَبيِّيْنَ حتَّى أنَّهُ بَلَغَني أنَّهُ مَرَّ يَوْمًا رَاكِبًا ليَخْرُج من باب العِرَاق، فلمَّا وَصَلَ إلى المَرْمَى، وهو دَاخِل السُّور بالقُرْبِ من باب العِرَاق، سَمِعَ امرأةً تُنَادي أُخْرى: يا زَلِيْخَا، تعالي أبْصِري المَلِك، فأمْسَك رَأس فَرَسهِ ووَقَف سَاعةً، ثُمَّ نَظَر فلم يَرَ أحدًا، فقال: أين هي زَلِيْخَا؟ قُولُوا لها تأتي تُبْصرنا أو نَمْشي! وهذا من أبْلَغ اللَّطَافة من مَلِكٍ مثْله.
(a) مهملة في الأصل والمثبت عن العظيمي: تاريخ حلب ٣٥٩ (وأرخ زواجه سنة ٤٩٠ هـ)، وابن العديم: زبدة الحلب ١: ٣٤٣.