يبْلغُه اخْتِلاطُنا بالجُنْد ومُنَازَعتُنَا إيَّاهُم في المَنَازِل، فعَزَلَ عَسْكَرَنا من عَسْكَره، وعَرَضَنا، فبَلَغ أهْلُ المِصِّيْصَة ومَنْ ضَوى إليهِم ألْفَين وثَمانمائة ونَيِّفًا على السَّبْعين، وبَلَغَ أهْلُ أذَنَة ثَمانمائة ونَيِّفًا على الثَّمانيْن، وبَلَغ أهْلُ طَرَسُوس ألْفًا وسِتِّمَائة ونَيِّفًا وأرْبَعين، فعَزَلَنا من عَسْكَره، ونَزَلنا طُوَانَة، وأقَمْنا بها ثلاثة أيَّام حتَّى صَار إليه عُيُونُه، فأخْبَرُوه خَبَرَ الطَّاغِيَة، وأنَّهُ لا جَمْعَ له، فسِرْنا حتَّى انْتَهَينا إلى أَدَرُوليَة، فأقَمْنا بمَرْج أَدرُوليَة أرْبَعَ ليالٍ، والرَّشِيْد لا يَسْتَشِير أحَدًا من أهْل الثُّغُور، وفَتَحْنا ثلاثةً وعِشْرين حِصْنًا من حُصُون العَدُوّ، وذلك أنَّ الطَّاغِيَة وجّهَ إلى البَطَارِقة الّذين في ناحية الضَّوَاحِي فجَمَعَهُم ورِجَالهم، حتَّى عَسْكَروا على خَلِيْج القُسْطَنْطِينِيّة، والنَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ أنَّ الطَّاغِيَة يُرِيد لقاءَ هارُون.
وعَزَم أَمِيرِ المُؤْمنِيْن على لقاءِ الطَّاغِيَة حيث كان (١)، فتوجَّهَ من أَدَرُوليَة حتَّى دَخَل القُفْلِ، والقُفْلُ شعْبٌ مَسِيْرته أرْبَعَةُ أمْيَالٍ، ثُمَّ يُفْضِي إلى مَرْجٍ رَحبٍ فَسِيْح، يَلِيهِ خَلِيْج قُسْطَنْطِينِيَّة، فنَزَلَ على نَهْرٍ عظيم كَثِير الماءِ، والعَدُوّ نُزُول على ذلك النَّهْر، فكَتَبَ الطَّاغِيَةُ إلى بَطَارقَتَه أنْ أَنْزلُوا القُفْلَ، ولتكُن الرَّجَّالَةُ مُنتظِمَةً حتَّى تَمْلأ القُفْل، والخَيْلُ على بابِ الشّعْب ممَّا يَلي عَسْكر أمِير المُؤمنِين وخَارِج القُفْل، والعَدُوُّ يَحُول بين المُسْلمِيْنَ وبين أَنْ يَنَالُوا شَيئًا من العُلُوفَة، وقد ضَيَّق على المُسْلِمِيْنَ غاية التَّضييْق وليسَ لهم مَلْجأٌ ولا مَسْلَكٌ.
فلَّمَا اشْتَدَّ بالمُسْلِمِيْن ما هم فيه من الجَهْد، كَتَبَ أَميرُ المُؤْمنِيْن كِتَابًا إلى الطَّاغِيَةِ لَطْلبُ المُهَادَنَة، وبَذَلَ له كُلّ أَسِير وأَسِيْرة، وأنَّهُ يَبْنِي ما هُدِمَ من الحُصُون الّتي خرَّبها فِي مَسِيْره، فأبَى عليه. واشْتَدَّت شَوْكَة العَدُوّ، وطَمِعُوا كُلّ مَطْمَعٍ، وضعُفَتْ خُيُول المُسْلِمِيْن، ونَخَبَتْ قُلُوبهم.
(١) خبر الرشيد في غزوة الروم هذه، وإعماله الحيلة بمشورة إبْرَاهِيم الفزاري ومخلد بن الحَسَن، أوردها المسعودي والحميريّ، وذكرا بدل أدرولية: هرقلة، وأوردا حيلة أخرى غير هذه. انظر مروج الذَّهب ٢: ٥٦ - ٥٧، الروض المعطار ٥٩٣.