وكَتَبَ إلى البَطَارِقَة كِتَابًا وألْطَفَهُم، ووَجَّه إليهم بمالٍ وكُسًا وطِيْب، ودَعَاهم إلى طَعَامِهِ في مَضْربهِ، فأجَابَهُ العَدُوُّ، ووَجَّهَت البَطَارِقَة بكتابهِ إلى الطَّاغِية، فكَتَبَ إليهم أنْ يَقْبلُوا من سَالِم ولا يَعْرضُوا له إلَّا بسَبِيل خَيْر، ولا لأحدٍ ممَّن تبعَهُ، فإنَّهُم أهْلُ الثُّغُور ورِجَال الحَرْب، صُبُرٌ عندَ اللِّقَاء، وشَوْكَتُهُم الشَّوْكَةُ الصَّعْبَةُ، فآنَسوه وآنَسَهم، وحَلَفَ لهم وحَلَفُوا له، وقال: إنَّ في أصْحَابي مَنْ لا أَثِق بهِ، لحَدَاثَة سِنِّه وقِلَّة حُنْكَته، وفي أصحَابكُم كذلك، فقالوا: نَعَم، فقال: تكُون طَائِفَة مكان كذا، وطَائِفَة مكان كذا.
فرتَّب سَالِمٌ أصْحَابَهُ في الدَّرْب كُلِّه، وصَارَ في يَديهِ وأيْدِي المُسْلمِيْن، وتَميلُ طَائِفَةٌ على سَاقة سَالِم، فقُتِلَ من المُسْلِميْن ثلاثة نَفَر، وأخَذَ العَدُوّ من ثِقْلة سَالِم بَعْضَها، ويَمِيل سَالِم بمَن معَهُ من أهْلِ الثُّغُور على العَدُوّ، فقُتِلَ من العَدُوّ نَيِّفٌ على سَبْعِين ألف رَجُل، وأُسِرَ من العَدُوّ زُهَاء ثلاثين ألفًا، وغَنِمَ المُسْلمُونَ من الدَّوَابِّ والبِغَالِ والدُّرُوع والسُّيُوف ما لا يُحْصَى، ونادَتْ رِجَال من النَّصْرانِيَّةِ بسَالِم: يا سَالِم، ارْحَم النَّصْرانِيَّة، ابْق منهم بَقِيَّة! فجَمَعَ الغَنائِم وأجازَها الجَبَل، وضَرَبَ القِبَاب لأَمِير المؤمنِيْن رَحْمَةُ الله عليه، ونَضَّد جِيَفَ القَتْلَى على الطَّريق يُمْنَةً ويُسْرةً، واسْتَنْقَذَ ما كان من عَطَايَاهُ للبَطَارِقَة، ووجَّه إلى أَمِير المُؤْمنِيْن فأقْبَل، وحَلَفَ سَالِمٌ لا يَرْكَب ولا يُفَارق ركابَ أَمِير المُؤْمنِيْن حتَّى يُجِيْزَهُ الدَّرْبَ، فلمَّا نزل المُسْلمُونَ مَنْزِلَهُم أمرَ أَمِير المُؤْمنِيْن بضَرْب أعْنَاقِ الأُسَارَى، فلم يَسْتَبق منهم أحدًا، ولم يَمُرّ أَمِير المُؤْمنِيْن بحِصْنٍ إلَّا فَتَحَهُ اللهُ عليه حتَّى قَدِمَ المَأمَن.