للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حدَّثَهُ، قال: لمَّا أتَى ذُو القَرْنَيْن العِرَاقَ، اسْتَنْكَر قَلْبَهُ، فبَعَثَ إلى تُرَاب الشَّام فأُتِي بهِ، فجَلَسَ عليه، فرجعَ إليهِ ما كان يَعْرفُ من نَفْسه.

ولا أشُكُّ أنَّ التُّراب الّذي أُحْضر إليهِ، من تُرَاب حَلَب أو بعض عَمَلها، لِمَا ذَكَرناهُ من فِعْل أَرُسْطُو، ولِمَا بَيَنَّاهُ في الباب المُتَقدِّم من أنَّ الإقْليم الرَّابِع وَاسِطة الأقاليِمْ، وأطيَبُها ماءً، وأعْدَلُها هَواءً، وأحْسَنُها أهْلًا، وأصَحُّها طِباعًا، وليس في بلادِ الشَّام من الإقْليم الرَّابِع غير حَلَب وأعْمَالها.

وقَرَأتُ بخَطِّ الحَافِظ أبي نَصْر بن فُتُوح الحُمَيْدِيّ، قال: ووَقَع طَاعُون ووَباء بالشَّام، فَأرادَ الوَلِيدُ أنْ يخرُجَ إلى حَلَب فيُقِيم بها، فقال لَهُ رَجُلٌ يا أَمِير المُؤمِنِين، إنَّ الله عَزَّ وجلَّ يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (١)، فقال له الوَلِيدُ: فذلك القليلَ أُرِيْدُ.

قُلْتُ: وقد كان جَمَاعَةٌ من بني أُمَيَّة اخْتارُوِا المَقَام بناحيةِ حَلَب، وآثَرُوها عِلى دِمَشْق، مع طِيْب دِمَشْق وحُسْنها، وكَوْنها وطَنَهُم، ولا يَرْغَب الإنْسَان عن وطَنه إلَّا بما هو أفْضَل منهُ، فمنهم هِشَام بن عَبْد المَلِك، انْتقَل إلى الرُّصَافَة، وسَكَنها واتَّخذها مَنْزِلًا لصِحَّة تُرْبَتها، واخْتار المَقَام بها على دِمشْق، ومنهم عُمَر ابن عَبْد العَزِيْز رَحِمَهُ الله، أقام بخُنَاصِرَة واتَّخذها لهُ مَنْزِلًا، ومنهمِ مَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك، سَكَنَ بالنَّاعُورَة، وابْتَنَى بها قَصْرًا، وبناهُ بالحَجَر الصَّلْد الأَسْود، وبقي ولدَهُ به بعْدَهُ، وكان صالح بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاسٍ قد وَلي الشَّام جميعَهُ، فاخْتارَ حَلَب لمَقَامهِ، وابْتَنى له بِظَاهِرها قَصْر بُطْياس، وهو من غَرْبيّ النَّيْرَب (٢) وشَماليّه، ووُلِدَ لهُ بهِ عامَّة أولادِه.


(١) سورة الأحزاب، الآية ١٦.
(٢) النيرب: قرية في هضبة حلب الغربية تتبع لحلب، وهي في أرض منبسطة تنحدر قليلًا نحو الشرق، وتقع في ناحية الجنوب الشرقي لمدينة حلب على بعد ٦ كم. الغزي: نهر الذهب ١: ١٦، طلاس: المعجم الجغرافي ٥: ٤٣٧ - ٤٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>