كُلُّ هذا لمَا اخْتُصَّتْ به هذه البِلاد من الصِّحَّة والاعْتدال، وكذلك الحَصَانَة؛ فإنَّني قَرَأتُ في كتاب نَسَب بني العبَّاس، تأليف أبي مُوسَى هارُون بن مُحمَّد بن إسْحَاق بن مُوسَى بن عِيسَى بن موسَى بن مُحمَّد بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاس (١): أنَّ إبْرَاهِيمْ بن صالح بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس لمَّا مات، وكان أولاده بفِلَسْطين قال: فأمَرَ الرَّشيدُ عَبْد المَلِك بن صالح بحَمْل ولدِ إبْرَاهِيمْ جميعًا من فِلَسْطين إلي حَلَب من مال أَمِير المُؤمِنِين، لاجْتماعَ ولد صَالح بن عليٍّ بها، ولأنَّها حَصِيْنَةُ مَنِيعةٌ، وأنْ يُجْري عليهم من الأرْزَاق ما أمَر به لهم، فحملَهُم عَبْدُ المَلِك بن صالح جميعًا من فِلَسْطين إلى حَلَب، فلم يَزَالُوا بها إلى أنْ تُوُفِّي الرَّشِيد، ثمّ افْتَرقُوا.
وأمَّا غير هؤلاءَ من المُلُوك العِظَام؛ أرْباب المَمالِك الوَاسعَة، والبِلَاد الشَّاسِعَة، الّذين تَرَكُوا سَائر بلادهم، واخْتاروا المَقَام بحَلَب قَرَارًا، وجَعَلُوها مَسْكَنًا لهم ودَارًا، فأكْثَر من أنْ يُحْصَوْنَ، وهذا هِرَقْل، على سَعة مملكته واسْتِيلائهِ على بلاد الرُّوم وبلاد الشَّام جميعها، اخْتَار المَقَام بأَنْطاكِيَة، وكان كما ذَكَرنا عنه أنَّه كُلَّما حَجَّ بَيتَ المَقْدِس، خَلَّف سُورْيَة - وهي شام حَلَب وقِنَّسْرِيْن وعَمَلهما - وطَعَن في أرْض الرُّوم، الْتَفَتَ إلا فقال: عليك السَّلام يا سُوِرْيَة، تَسْليم مُوَدّع ولم يَقْض منكِ وَطَرَهُ، وهو عَائد. ولمَّا فُتِحَتْ قِنَّسْرِيْن، وسِار نحو القُسْطَنْطِينِيَّة الْتَفَتَ وقال: عليكِ السَّلام يا سُورْيَةُ، سَلامُ لا اجْتماع بعدَهُ.
(١) لم يرد ذكر هذا الكتاب إلا عند ابن حزم وابن العديم، وأما مؤلفه فمعروف، وهو أحد أبناء البيت العباسي، تولى المدينة ومكة، وحج بالناس من سنة سنة ٢٦٣ هـ إلى سنة ٢٧٨ هـ، ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها حتى وفاته، قال ابن حزم: "ألَّف نسب العباسيّين وغير ذلك". انظر: جمهرة أنساب العرب ٣٢ - ٣٣.