للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في مُحْكم كتابهِ (a): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (١)، أفتأمرُني (b) بالرُّجُوع بعد عِلْمي بوِعِيْدِ رَبِّي عزَّ وجلَّ!؟ قال: فلمَّا أنْ أبَى عَلَيَّ حَملتُه على هَجِيْن كان معي فتقدَّم فلَم يَزَل يَضْرِبُ يُمْنةً ويُسْرة، ثُمَّ رجعَ فسَلّمِ علَّي سَلَامَ مُوَدِّع كأنَّهُ أحسَّ بالمَوْت، ثمَّ انْطَلَقَ لَيْرمي السَّهْم (c) الثَّالثَ، فلمَّا وضَعَهُ في كَبدِ قَوْسِهِ أتاه مِزْرَاقٌ فضَرَبَهُ بين عَيْنيه، فنكسَ الغُلَامُ رَأسَهُ على عُنُقِ فَرَسِهِ، وهو يَقُول: نَجَوْتُ ورَبِّ الكَعْبَة، ثمّ نَادَى أخْفَضَ من الأوَّلِ: نَجَوتُ ورَبِّ الكَعْبَة.

قال: فَخشِيْتُ أنْ يَمُوتَ، فدَنَوْتُ منه، فقُلتُ: حَبِيْبي، لا تنسَ حَاجَتي الشَّفَاعَة، قال: لا يا أبا قُدَامَة، ولكن لي إليك حاجَةٌ، قُلتُ: وما هي؟ قال: أنا ابنُ صَاحِبةِ الوَديْعَة، فإذا أنْتَ أتيْتَ المَدِينَة فأتِ دُكَّان يَحْيَى العَلّاف؛ فإنَّ لي عندَهُ خُرْجًا، فخُذْه وانْطَلِق به إلى وَالدَتي، وصَبِّرْها؛ فإنَّها عام أوَّل أُصِيْبَت بوَالدِي، والعام يَزِيد عليها ثُكْلِي، قال: ثُمَّ سَكَتَ فماتَ.

فلمَّا سَكَنَت الحرب، ودَفنَّا القَتْلَى، حَفَرْنا له مَطْمُورةً، فألقْيْناهُ فيها بأطْمَاره، ودفناهُ، فواللَّهِ ما تمالَكْنا النُّهُوضَ حتَى نبذَتْهُ الأرْضُ علِى ظَهْرها، وأقْبَلَ عَلَيَّ أصْحَابي، فقالوا: يا أبا قُدَامَة، ألَم نَقُلْ لك إنَّهُ غُلَامٌ، ولعَلَّهُ خرَج عن غير إذْنِ أبَوَيهِ، فقُلتُ: مَهْلًا إِنَّ الأَرْضَ لتَقْبَلُ مَنْ هو شَرٌّ منه، إنَّها لتَقْبل اليَهُودَ وغيرَهُم، ثمّ تنحيَّتُ فصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْن، ودَعَوْتُ رَبِّي، وقُلتُ: اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمَتِكَ، فإنْ كُنْتَ تَعْلَم منه شيئًا فاسْتُرهُ عليه، قال: فواللَّهِ ما اسْتَتْمَمتُ الدُّعَاءَ حتَّى سَمِعْتُ وقْع خَلَاخِيل


(a) م: كتابه العزيز.
(b) م: فتأمرني.
(c) فوقها في الأصيل: "صـ".

<<  <  ج: ص:  >  >>