للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إبْلِيْس يَقْطَعُنِي عن غَزَوَتِي ويَشْغَلني عن سَبِيل رَبِّيّ، قال: فصَوَّتَتْ بي الثَّالثَة بصَوْتٍ حَزين أوْجَعَتْ قَلْبِي وأدْمَعَت عَيْني، وهي تَقُول: أبا قُدَامَةَ، تَواضَعْ رَحِمكَ اللَّهُ، ليسَ هكذا كان مَنْ مَضَى قَبْلَكَ، قفْ علَيَّ، فوَقَفْتُ عليها، فلَمَّا بلَغَتْ إليَّ قالت: تَنَحَّ عن الطَّريق، فعَدَلْنا، فقالت: أبا قُدَامَةَ، إنِّي أُرِيْدُ أنْ أسْتَودعَكَ وَدِيْعَةً فاكْتُمها عَلَيَّ، قال: قُلتُ: وما هي؟ قال: فضَرَبت بيَدها إلي ردَائها والدُّمُوع تَنْحَدر على نقَابها، فقالت: أبا قُدَامَةَ، إنِّي أُرِيْدُ أنْ أسْتَودِعَكَ ودِيْعَةً أنِّي عَمَدتُ إلى ناصيَتِي ومَوَاضِع السُّجُود من قُصَّتِي فأخذْتُه وجَعَلْته قَيْدًا لفَرَس الغَازِي في سَبِيْل اللَّهِ، لعلَّ اللَّه تعالى يَنْظُر إلي شَعري في الثَّرَى قد وَطئتْهُ الخَيْل بسَنَابِكها فيَرْحَمْنِي، فواللَّهِ لولا أنَّكَ غَرِيْبٌ في زَمَنِي هذا ما أطلعتُكَ على سرِّيّ، ولا أخْبرتُكَ بداخِلَة أمْري، قال: قُلْتُ: إنِّي أخَاف أنْ آثم، قالىَ: لا يُؤْثمُكَ اللَّه، فودَدْتُ أنِّي قَدرتُ أنْ أقُدّ من جِلْدِي سَيْرًا (a) يكُون عِذَارًا لفَرَس الغَازِي في سَبِيْل اللَّهِ ليَنْظُرَ إليَّ الرَّحيمُ بخَلْقه، الرَّؤوفُ المَنَّان بعِبَادِه، ويَنْظُرِ إلى جَوَلان فَرَسِ الغَازِي في سَبِيْل اللَّهِ، ويَنْظُرِ إلى سُيُّور من جلدَة حُرَّة من حَرَائِر المُسْلِمِيْنَ، ويَرْحَمني.

قال: فبينا أنا أسيرُ إذا هاتفٌ يُنَادِي: يا عَمّ، قال: فالتفَتُ فإذا أنا بغُلَامٍ قد أقْبَل، فقال: يا أبا قُدَامَة، خُذْ هذه السِّكِّيْن في سَبِيْل اللَّهِ، فلم يَزَل يَطْلُب إليَّ حتَّى أخَذْتُها منه.

فبينا نحنُ نَسِيْرُ إذ نُودِيَ بالنَّفِيْر، قال: فتقدَّم الغُلَامُ أمام الخَيْل، وكَثُر العَدُوّ، فَخَشِيْتُ عليه أنْ يُقْتَلَ، قال: فرجعْتُ في طلَبهِ، فقُلتُ لَهُ: حَبِيْبِي، ليسَ هذا مَوضِعُ مثْلكَ، أنْتَ رَاجِلٌ بغير دَابَّةٍ، ولستُ آمَنُ عليكَ جَوَلَانَ الخَيْل وثَوَرانَ الحَرْب، فقال: أبا قُدَامَة، أتَأمرُني بالرُّجُوع وقد سَمِعْتُ اللَّه تعالَى يَقُول


(a) م: سبرًا، والسَّيْرُ: وجمعه: سُيُّور، ما يُقدّ من الجلد أو الأديم طولًا، تشدّ به دفتي السرج. لسان العرب، مادة: سير.

<<  <  ج: ص:  >  >>