أمَّا إِحْداهمُا: فإنَّهُ اسْتُفتي في قَضِيَّةٍ فأفْتَى بها، فحَمَل صاحِبُ الفُتْيَا الفَتْوَى إلى دِيْوان نُور الدِّين، فلم يَعْملوا بها، فجاءَ إِلى الشَّيْخ، فحَكَى له ذلك، فشَقَّ عليه وقال: بَلَدٌ لا يُعْمَل فيها بما يُفْتي به الفُقَهاء لا أسْكنه! وقامَ ولَبِسَ ثيِابَهُ، وخَرَجَ ليَرْحلَ من دِمَشْق، فبَلَغَ ذلك نُور الدِّين، فخَرَج في أثره، فلَحِقَهُ في المِزَّة، فجاءَ، ونَزَلَ وتلقَّاهُ، وقال: ما الَّذي دَعاكَ إِلى هذا؟ فقال: أُفْتِى بشيءٍ لا يُعْمَل بهِ؟ لا حاجَةَ لي إلى سُكْنى بَلْدة تكُون بهذه الصِّفَة. فاعْتَذَرَ إِليه، وقال: لا، بل يُعْمَل بقَولِكَ، وبما تُفْتِي بهِ. وسَألَهُ في العَوْدِ، فأَجابَ إِلى ذلك.
فرَجعَ نُور الدِّين معه ماشِيًا على قَدَمهِ من المِزَّة حتَّى دَخَلَ المَدْرسَة الصَّادِريَّة بباب الجامع.
وِأمَّا الثَّانيةُ: فإِنَّهُ كان بالصَّادِرِيَّة بَوَّابٌ يتَصَفَّح حالَ الفُقَهاءِ، فجاءَ إلى الشَّيْخ يوْمًا وقال: إنّ فُلانًا وفُلَانًا من الفُقَهاءِ يَجْتَمِعان بالبَيْتِ الفُلَانيّ، ويَشْرَبان الخَمْر. فقال: لا تَتَكلَّم بشيءٍ، وإذا رأيْتَهُم على هذه الحالةِ، فأعْلِمني بذلك.
وعَمَدَ الشَّيْخُ إلى السُّوق، فاشْتَرَى منه ما يَصْلُح للنُّقُل على الشّرْب، وتَرَكهُ في مِئْزرٍ مَشْدُودٍ عنده. فجاءَ البَوَّابُ في بعض اللَّيَالي، فقال: همُا يَشْربان السَّاعَة! فأخَذَ الشَّيْخَ ذلك النَّقْل بيَدِه، وأتَى إلى الباب الَّذي فيه الفَقِيهان، ووَقَفَ على البابِ، وقال: اللَّهُمَّ تب عليهما. ونَقَرَ الباب، فلم يَسَعْهُما إلَّا فَتْحه، فنَاولَهُما ذلك النَّقْل، وقال: خُذا هذا واسْتَعمِلاهُ، فأخَذاه.
فلمَّا أصْبَحا، جاءَا إلى الشَّيْخ وتابا على يَدِه، وحَسُنَت تَوْبَتهما، ثُمّ صارا إمامَيْن في الفِقْه، ودرّس كلٌّ منهما بمَدْرسَةِ دِمَشْق.
وسُئلَ يَوْمًا عن مَسْألةٍ في الزُّهْدِ، فنَزل عن المنْبَر، وقال: مَكانكم حتَّى أرْجعُ إليكم، وراحَ إلى بَيْتهِ بالمَدْرسَة، وكان عندَهُ دِيْناران، فأخَذَهمُا وتصَدَّقَ