الإسْلَام؛ فقد عاهَدْتُ أبا إسْحَاق الخَرَّاز أنْ يَحُجَّ عَنِّي - وكان هذا رَجُلًا من الأبْدال يَحُجّ في كُلِّ سَنَة، وكان أبي، رَحِمَهُ اللهُ، صَارُوْرة (١) لم يَحُجَ - وأقِمْ على قَبْري قَارِئَيْن يَقْرآن في كُلِّ يَوْمٍ نِصْف خَتْمَة، ويَسْتَكْملان خَمْس عَشْرَة خَتْمَة في الشَّهْر، وتَصَدَّقْ عَنِّي بدِيْنارٍ في كُلِّ خَتْمَة، وادْفِنِّي في الدَّارِ الصَّغِيْرة؛ كُلُّ ذلك والبُكَاءُ يَغْلِبُني والنَّحِيبُ، فقال: يا بُنَيّ، دَعْ هذا عنْك واسْتَوعِب ما أُوصِيكَ بهِ، وافْهَمْ عَنِّي، فقُلْتُ: لا واللهِ إلَّا في مَجْلِسك هذا! فقال: لا تَفْعَل هذا بوَجْهٍ ولا بسَبَب، فأنِّي أخافُ أنْ أُثْقِلَ عليكم، واعْمَل معي ما وَصَّيْتُك به لسَنَةٍ كَامِلَة، فإذا تَمَّت فاصْنعَ ما بَدَا لك، فقُلْتُ: واللهِ يا مَوْلاي، لئن قَضَى اللهُ علَيَّ بهذه المُصِيْبَة لأفْعَلَنَّ أضْعافَ ما وَصَّيْت به، فتَشُكّ يا مَوْلاي فيَّ؟ فقال: لا واللهِ يا بُنَيّ؛ ولكنْ أشْغالُ الدُّنْيا تَشْغَلُكَ.
ثُمّ أخَذَ في الذِّكْر، فلعَهْدِي به، رَضِي اللهُ عنه، وأنا جالِسٌ خَلْفَ ظَهْرِه، وفَمُهُ لا يَفْتُر من الدُّعاءِ لي، وهو يقُول: يا بُنَيَّ؛ حَرَسَكَ الله، يا بُنَي؛ صَانَكَ الله، وما أشْبَه ذلك.
فلم يَزَلْ هذا شأنُهُ إلى أنْ ثَقُلَ لِسانُه. وكان آخِرَ ما سَمِعْتُه منه قَوْلُه: يا أمان الخائِفين. ثُمّ لم أسْمَعْ منه كَلِمةً بعد ذلك.
ثُمّ أُغْمِيَ عليه في آخِر اللَّيْل، وكان يَرْفَع يَدَيْه للصَّلاة ويُومئ برَأسِه إلى السُّجُودِ، كُلّ ذلك وعَيْنُه مُطْبِقَة، فلم يَزَلْ كذلك بَقِيَّة لَيْلَته يَسْجُدُ بوَجْهِه، ويَرْفَعُ يَدَيْه للتَّكْبير، ويُشِيرُ بالسَّلام يَمْنَةً ويَسْرَةً.
(١) في نشرة كتاب المسبحي: صرورة، ويقال رجل صرورة وصارورة، يقال للذي لم يحج، أو لم يتزوج.