للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

===

وأقامَت لَيْلتها تلك إلى غَدِ ذلك اليَوْم، وهو يَوْم الجُمُعَة لأرْبَع بَقين منه عند طُلُوع الخَطِيْب المِنْبَر، فبَقِيت رَضِي اللهُ عنها، وكانت تَسْتَغِيث من أحْشَائها وفُؤادها، وكان مَوْتها فجأةً، ونَالَني عليها من الوَجْدِ ما لا أجِدُ له كاشِفًا إلَّا الله سُبْحانه، وكان في نِصْف هذا الشَّهْر كُسُوف قَمَريّ، ولقد جَزِعَت رَضِي اللهُ عنها عند مُشَاهَدتها لكُسُوفِ القَمَر، واجْتَهدتُ في تَسْكِين بُكَائها ونَحِيْبها عندَ رُؤيته بكُلِّ سَبِيل، ونِيَاحتها وبُكاؤها تزيد بُرْهَة من اللَّيْل، ثُمّ ضَربَ على ابْني أبي الحَسَن عليّ منها ضِرْسهُ قَبْلَ وَفاتها بيَوْمٍ واحدٍ، وأحْضَرتُ المُزَيِّن لقَلْعِهِ عند شِدَّة ما نَاله منه من الوَجَع، فلَطَمَتْ وَجْهَها، ودَقَّت صَدْرها، وأحلت بنَفْسها نفسها العظام من البُكَاءِ والنَّحِيْب إلى أنْ قُلِعَ ضِرْس الصَّبِيّ، وقُلْتُ أرْثِيها وأُنْشِدُ شِعْرًا، منه: [من البسيط]

سَطَتْ بكَ عَيْنٌ طَرْفُها الدَّهْرَ يَدْمَعُ … وقالتْ بأيْدِي الحادثات تُرَوَّعُ

وعارَضَ هَمٌ لو بَدَا لَمْعُ نارِهِ … لأحْرَقَ ما يَدْنو له حين يَلْمَعُ

وتَسْليمُ قَلْبٍ للنَّوائِب قُطِّعَتْ … عَلائِقُه والهمُّ لا يَتَقطَّعُ

وقد حَكَمَتْ أيْدِي المَنايا بجَوْرِها … وقد سَلَبَتْ من كان في القَلْب يُودَعُ

أصاحبةَ اللَّحْدِ العَزِيْز محَلُّهُ … لقد كانت الدُّنْيا لعِزِّك تَخْضَعُ

وأنْشَدَ شِعْرًا آخر في رِثائها، منه: [من الطويل]

ألَا في سَبِيلِ الله قَلْبٌ تَقَطَّعا … وفَادِحةٌ لم تُبْقِ للعَيْنِ مَدْمَعَا

فيا ليْتَني للمَوْت قد مُتُّ قَبْلها … وإِلَّا فلَيْت المَوْتَ أذْهَبَنا مَعا

وذَكَرَ ما صنَّفه من الكُتُب، وهي: كتاب مُخْتار الأغَانِي، وكتاب التَّلويْح والتَّصْريح في مَعانِي الشِّعْر؛ ألْف وَرَقة، وكتاب الغَرَق والشَّرَق فيمَن ماتَ غَرقًا أو شَرقًا؛ مائتا وَرَقة، وكتاب الرَّاح والارْتِياح في وَصْف الشَّراب وآلاتِهِ والنّدَام

<<  <  ج: ص:  >  >>