للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

===

قال ابنُ العَدِيْم: حَفَرتُ يَوْمًا بين يَدَيْهِ، وشَاوْرتُه على هذا الشَّاعِر أنْ يُنْشِد قَصِيْدة عَملها في تَهْنئته بقُدُوم دِمَشْق، وشَفعها بأبْيَاتٍ يُذَكِّر برَسْمِهِ، فوَقَف على الوَدقين، ثمَّ أذن له، فَحَضرهُ وأنْشد قَصِيْدة المَدْح وخَرَجَ بسُرْعَةٍ، فاسْتَرجَعهُ، وقال له: أنْشد هذه الأبْيَات فإنَّك أنْشَدت أبْيَات القَصِيْد ولم تُنْشد أبْيَات القَصْد، فلمَّا أنْشَدهُ الأبْيَات قال: السَّيْفُ يحْتَاج إلى الهَزِّ، وأمَرَ له بتَشْريفه ورَسْمه.

وحَضَرَ إليهِ الشِّهَاب رَشيْدُ الخَادِم من مِصْر، فأنْعَم عليه، وبَالَغ في الإِحْسَان إليه، وكَتَبَ لهُ خُبْزًا خَدم عليهِ، فلمَّا جاءَت السَّنَة الثَّانية تَضَوَّر، وطَلَبَ الزِّيَادَة فِي إقْطاعِه، وتَكَرَّر طَلبُه مِرَارًا، فَقال آخر مَرَّة: يَنْبَغِي أنْ تَسدُّوا فَم رَشِيْد! يُشِير إِلَى زِيَادَة إقْطاعه، وفَم رَشِيْد مَعْرُوف بالدِّيار المِصْريَّة.

وكانَ مرَّةً جَالسًا وبَين يَدَيْهِ شَاعِرٌ، فأَنْشَد قَصِيْدة، فأخَذَ بعضُ الجَمَاعَة ينْتَقد عليه، فقال الشَّاعِرُ: دَعُونِي حَتَّى أُتِمَّ الإنْشَاد وبعد ذلك يكُون الانْتِقاد، فقال السُّلْطانُ: لا تجْعَلُوا النَّقْد نَقْدًا.

ولمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ بينَهُ وبين المِصْريِّيْن على أنْ يردُّوا كُلَّ ما كان مُتَخَلِّفًا للأُمَراءِ الَّذينِ في خِدْمَة السُّلْطان، أحْضَر في جُمْلَة ما أحْضَر ما كان بَقِي للأمِيْر لجَمال الدِّين بن يغْمُور بدِيار مِصْر، فعَزَلَ ممَّا حَضَره ما يَصْلُح لتِقْدِمة السُّلْطَان ونوَّعَهُ أنْواعًا من كُتُب وغَيرها، وكَتَبَ جَرِيدَة مع التَّقْدمة بما سَيَّرَهُ، وجَعَلَ أوَّل الجَريْدَة أسْماء الكُتُب اسْمَ كتاب يُقال له: جُهْد المُقِلِّ؛ إِشارَةً إلى اسْتِقْلَال تَقْدِمَتهِ، ونَفذَ ذلك على أيْدِي المُحْتَرفين من أصْحابهِ، وقال للمُشَارِ إليه منْهُم: إذا حَضَرْتَ بين يَدي السُّلْطان قُل: يا مَوْلَانا هذا بَقِيَّة السَّيْف! فلمَّا قال ذلك، قال السُّلْطان بسُرْعَة: بل {بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} (١).


(١) سورة البقرة، الآية ٢٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>