وقال لي يَاقُوتُ الحَمَوِيّ (١): نقلت من خط أبي الريحان مُحمَّد بن أحْمَد البَيْرُونِيّ في رسالةٍ له سمَّاها التَّعلل بإجابة (a) الوهم، في مَعَاني نُظُوم أُولي الفضل، قال في أثناء كلام ذكره: ثمّ إن لي من أخلاقهم -يعني: الشُّعَراء- أسوة حسنةٌ ومسْلاة أكيدةٌ، بإمام الشعراء الَّذي طرَّق لهم ولمَن بعده إلى طريقته المخترعة في الشعر، وخَلَّفَهم من معاني كلامه في بُروق تَخْطَفُ أبصارهم وبصائرهم، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}(٢): أبي الطَّيِّب المُتَنَبِّي، حتَّى إنَّ أفاضلَ أهل زماننا كأحمد بن فارس يحسُده على ما آتاه الله من فضله، ويقول: إنَّهُ مَبْخُوتٌ وإلَّا. . .! قال لي ياقوت: كذا رأيته مُبيَّضًا بخَطِّه.
ويقُول: سألتُ أبا الفَضْل بن العميد عن مَعْنى قوله: [من الطّويل]
وفاؤُكُما كالرَّبْعِ أشَجْاهُ طَاسِمُه
فأجابني بأنَّ المُتَنَبِّي خَرَجَ من الدُّنيا بعد ستين سنة عاشها، ولم يكن وقف على معناهُ.
وكان أبو الطّيب، على ضيق عَطَنه، رفيع الهمَّة في صناعته، فاقتصَرَ لها في رحلته بمَدْح عَضُد الدَّوْلَة ووزيره ابن العَمِيد، وراودَهُ الصَّاحبُ إسماعيل بن عبَّاد على التَّزاور رغبةً في مديحه، فأبى الانحطاط إلى الكَتَبَةِ، وهذا ما حَمَلهُ على الخَوض في مساوئ شِعره (٣)، وليس يترَفَّع عن حَلِّه ونَثْره في أثناء كتابتِهِ، ومُشاركة الحَاتِمِيّ (٤) في إدامَة حَلِّ نَظْمِه في رسَائلِه، بعد مقالته التي عَمِلَها فيه
(a) عند ياقوت في موضعين من كتابه: "بإجالة". انظر: مُعْجَم الأدباء ٥: ٢١٨٦، ٢٣٣٣.