للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبو الطَّيِّب حَاضِرٌ، وسَيْف الدَّوْلَة يَنْتَظر منه أنْ يَفْعل مثل فعلِنَا، أو يَطْلبُ شَيئًا منها، فما فَعَلَ، فغَاظَهُ ذلك، فَنَثَرها كُلَّها، فلمَّا رأى أنها قد فاتَتْهُ، زاحَمَ الغِلْمَان يلتَقط معهم، فغمزَهُم عليه سَيْفُ الدَّوْلَة، فداسُوهُ ورَكبوهُ، وصارَت عِمَامته وطُرْطُورُه في حَلْقِهِ، واستَحْيى، ومضَتْ به لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وانصَرفَ، فَخَاطَبَ أبو عَبْد اللهِ ابنُ خَالَوَيه سَيْفُ الدَّوْلَة في ذلك، فقال: مَنْ يَتَعاظَمُ تلك العَظمة، يَتَّضِعُ إلى مثل هذه المَنْزلةِ، لولا حَمَاقَتُهُ؟!

وممَّا يُحْكَي من بُخْلِه وشُحّه ما قرأتُه في تاريخ أبي غَالب هَمَّام بن الفَضل بن المُهَذَّب المَعَرِّيّ (١)، سَيَّرَهُ إلىَّ بعضُ الشِّرَاف بحَلَب، قال: وكان سَيْفُ الدَّوْلَة قد أقْطَعَهُ -يعني المُتَنَبِّي- ضَيْعَةً تُعرفُ ببَصِّف (٢)، من ضِيَاع مَعَرَّة النُّعْمَان القِبْليَّة، فكان يترَدَّدُ إليها، وكان يُوْصَف بالبُخْل، فمِمَّا ذُكِرَ عنه ما حَدَّثُوه جَمَاعَةٌ من أهل بَصِّف أنَّ كَلبًا من كِلَاب الضَّيْعة المَعْروفة بصَهْيَان كان يَطْرقُ تِيْنَ بَصِّفَ، فذُكِر ذلك لأبي الطَّيِّب المُتَنَبِّي، فقال للنَّاطُور: إذا جاء الكَلْبُ فعرِّفني به، فلمّا جاء عَرَّفَهُ، فقال: شُدُّوا على الحِصَان، وخرَجَ إليهِ فطَرَدَهُ أمْيَالًا، ثمّ عاد لا يَعْقِلُ من التَّعَب، وقد عَرِقَ فَرَسهُ، فقال له أهلُ بَصِّف: يا أُستاذُ، كيف جَرَى أمرُ الكَلْب؟ فقال: كأنَّهُ كان فَارِسًا مرَّةً! إنْ جئتُهُ بالطَّعْنَة عن اليَمِيْن عاد إلى الشَّمال، وإن جئْتُه من الشَّمَال عادَ إلى اليَمِين.

قال أبو [غَالِب] هَمَّام المَعَرِّيّ: وَحَدَّثُوا عنه أنَّ أبا البهيء بن عَدِيٍّ، شَيْخَ رَفَنِيَّة، كان صَدِيْقًا له، فنَزل عنده ببَصِّف، فسَمِعُوهُ وهو يَقُول له: يا أبا البَهِيء، أَوْجِز في أكْلكَ؛ فإنَّ الشَّمْعَة تَتْوَا. وسَمعُوه يُحاسِبُ وَكِيْلًا له وهو يَقُولُ: والحَبَّان ما فَعَلَتَا؟ يَعْنِي: فضَّةً.

أَخْبَرَنِي يَاقُوت بن عَبْد اللهِ مَوْلَى الحَمَوِيِّ، قال: قَرَأتُ في أخْبَار المُتَنَبِّي


(١) تقدّم التعريف بالكتاب في الجزء الأوّل.
(٢) لم أهتد للتعريف بها وبصهيان المذكورة بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>