واشتدَّ عليه، ورجع على ضَبَّة باللَّوم، وقال له: قد كان يجب أن لا تجعل لشَّاعِرٍ عليك سبيلًا، وأضْمر غير ما أظهر، واتَّصل به انصراف المُتَنَبِّي من بلاد فارس إلى العراق، وأن اجتيازه بجَبُّلَ ودَيْر العَاقُول، فلم يكن ينزل عن فرسه، وجماعة معه من بَنِي عمه رأيُهُم في المُتَنَبِّي مثل رأيه في طلبه واستعلام خبره من كل صادرٍ وواردٍ. وكان فاتك يتَحَرَّق خوفًا أن يَفُوتهُ، وكان كثيرًا ما يَجيئُنِي وينزل عندي، فقلتُ له يومًا -وقد جاءني وهو يسألُ قومًا مُجتازين عنه-: قد أكثَرتَ المسألةَ عن هذا الرّجُل، فأيّ شيء عَزْمُكَ أنْ تفعلهُ به متى لقيتَهُ، قال: ما عزمي إِلَّا الجَميل، وأنْ أعذُلَهُ على ما أفْحَشَ فيه من الهِجَاء، فقُلتُ: هذا الأليَقُ بأخلاقك والأشبه بأفعالكَ، فتَضاحك ثمّ قال: يا أبا نَصْر، والله لئن اكْتَحلت عيني به، أو جَمعتني وإيَّاه بُقعة لأسفكنَّ دَمه ولأمحَقَنَّ حياتهُ إِلَّا أن يُحال بيني وبينَه، فقلتُ له: كُفَّ -عافاك الله- عن هذا القَول، وارجع إلى الله، وأزل هذا الرأي عن قلبك، فإنَّ الرَّجل شهيرُ الاسم، بعيدُ الصَّوت، وقتلُك إيَّاه في شِعرٍ قالهُ لا يحسُنُ، وقد هَجَت الشُّعراء الملوك في الجاهليّة والخلفاء في الإسلام فما علمنا أن شاعرًا قُتِل بِهجاءٍ، وقد قال الشَّاعِر (١): [من الطّويل]
ولم يبلغ جُرْمهُ ما يُوجب قتله، فقال: يَفعلُ الله ما يشاء، وانصرف، فلم يَمض لهذا القول إِلَّا ثلاثة أيَّام حتَّى وافَى المُتَنَبِّي ومعه بِغَال مُوْقَرةٌ بكل شيء من الذَّهب والفضة والثِّياب والطِّيب والجَوهر والآلة، لأنَّه كان إذا سافر لم يُخَلِّف في منزله درهمًا ولا دينارًا ولا ثَوبًا ولا شيئًا يُساوي درهمًا واحدًا فما فوقه، وكان أكثر إشْفَاقه على دَفاتِره لأنَّه كان قد انتَخَبَهَا وأحكمها قِراءَةً وتَصْحيحًا.