للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان أبو العَلَاءَ مُفْرِط الذَّكَاء والحِفْظ، وأخْبَرَني والِدي رَحِمَهُ اللّهُ فيما يَأْثِرهُ عن أسْلَافه أنَّهُ قيل لأبي العَلَاءِ: بِمَ بلغْتَ هذه الرُّتْبَة في العِلْم؟ فقال: ما سَمِعْتُ شيئًا إلَّا حَفِظتُه، وما حَفظْتُ شيئًا فَنَسِيتُه.

وحَكَى لي أيضًا وِالدي فيما يَأْثِرهُ عنِ سَلَفه (١)، قال: سارَ أبو العَلَاء من المَعَرَّة إلى بَغْدَاد، فاتَّفَقَ عند وُصُوله إليها مَوْت الشَّريف أبي أحْمَد الحُسَين والد المُرْتَضَى والرَّضِيّ، فدخَلِ إلى عزيَّته، والنَّاس مُجْتَمعُون، فَتَخطَّى النَّاس في المَجْلِس، فقال له بعضُهُم ولم يَعْرفه: إلى أَينَ يا كَلْب؟ فقال: الكَلْب مَنْ لم يَعْرف للكَلْب كَذَا وكَذَا اسْمًا، ثمّ جلسَ في أُخْرَيَات النَّاس إلى أنْ أنشَدَ الشُّعَراء، فقام وأنْشَد قَصْيدَته الفائيَّة الّتي أوَّلها: [من الكامل]

أودَى فليْتَ الحادِثَاتِ كَفَافِ … مَالُ المُسيْفِ وعَنْبَرُ المُسْتَافِ (٢)

يَرْثِي بها الشَّريف المُتَوفَّى، فلمَّا سَمِعها الرَّضِيّ والمُرْتَضَى قاما إليه ورفَعا مَجْلسَه إليهما، وقالا له: لعلَّكَ أبو العَلَاء المَعَرِّيّ؟ فقال: نعم، فأكْرَماهُ واحْترَماهُ، وطَلَب أنْ تُعْرضَ عليه الكُتُب الّتي في خَزَائن بَغْدَاد، فأدْخِل إليها وجَعَل لا يُعْرض عليه كتَاب إلَّا وهو على خَاطِره، فعَجبُوا من حِفْظه.

وزَادني غير والدي أنَّه لمَّا أنْشَد: [من الكامل]

أودَى فليْتَ الحادِثَاتِ كَفَافِ

قيل له: كِفَاف، فأعادَها: كَفَاف، فتأمَّلوا ذلك وعرفُوا أنَّ الصَّوَاب ما قال.

أخْبَرَنا الشَّريفُ أبو عليّ المُظَفَّرُ بن الفَضْل بن يَحْيَى العَلَويّ الإسْحَاقِيّ، إجَازَةً كَتَبَها لي ببَغْدَاد وأنا بها، وقد اجْتَمَعْتُ به بحَلَب وعَلَّقتُ عنه


(١) انظره في الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) ٤: ١٢٢ - ١٢٣.
(٢) سقط الزند ٣١ - ٣٨، والبيت الأول من القصيدة في ضوء السقط ٢٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>