للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَوَائِد (١)، قال: حَدَّثَني والدي رَضِيَ اللّهُ عنهُ وأرْضَاهُ يَرْفعُه إلى ابن مُنْقِذ، قال: كان بأنْطَاكِيَة خِزَانَهَ كُتُب، وكان الخَازِن بها رَجُلًا عَلَويًّا، فجلَسْتُ يَوْمًا إليه، فقال: قد خَبَّأتُ لك غَريبهً طَرِيفَةً لم يُسْمَع بمثْلها في تاريخ ولا كتاب مَنْسُوخ، قُلتُ: وما هي؟ قال: صَبِيُّ دُونَ البُلُوغ ضَرِيْرٌ يتردَّدُ إليَّ، وقد حَفَّظْتُه في أيَّام قَلائل عدَّة كُتُب، وذاكَ أنَّني أقرأ عليه الكُرَّاسَة والكُرَّاسَتَيْن مرَّةً وَاحدَةً فلا يَسْتَعيْد إلَّا ما يَشُكُّ فيه، ثمّ يَتْلُو عليَّ ما قد سَمِعَهُ كأنَّهُ قد كان مَحْفُوظَهُ، قُلتُ: فلعَلَّهُ يكُون يحفَظُ ذلك، قال: سُبْحَان اللّه كُلّ كتاب في الدُّنْيا يكونُ مَحْفُوظًا له! وإنْ كان ذلكَ كذَلكَ فهو أعْظَمُ.

ثمّ حَضَر المُشَار إليه، وهو صَبيٌّ دَمِيْمِ الخِلْقَة، مَجْدُور الوَجْهِ، على عَيْنَيهِ بياضٌ من أثَر الجُدَرِيّ كأنَّهُ ينظرُ بإحْدى عَيْنيه قَليلًا، وهو يتَوَقَّد ذَكَاء، يقُوْدُهُ رَجُلٌ طُوَالٌ من الرِّجَال أحْسِبُهُ يقْربُ من نسَبهِ، فقال له الخَازِنُ: يا ولدي، هذا السَّيِّد رَجُل كبيرُ القَدْر، وقد وَصفْتُكَ عندَهُ، وهو يُحبُّ أنْ تَحْفَظ اليَوْمَ ما يَخْتارهُ لكَ، فقال: سَمْعًا وطاعةً؛ فليَخْتَر ما يُريد.

قال ابن مُنْقِذ: فاخْتَرتُ شيئًا وقرأتُه على الصَّبِيّ، وهو يَمُوْج ويَسْتَزيدُ، فإذا مرَّ بهِ شيءٌ يحتاجُ إلى تَقْريره في خَاطِره يقول: أَعِدْ هذا، فأُرَدِّدُهُ عليه مرَّةً وَاحدَةً حتَّى انْتَهَيْتُ إلى ما يَزِيدُ على كُرَّاسَةٍ، ثمّ قلتُ له: يُقْنِع هذا من قِبَل نَفْسي، قال: أَجَلِ حَرَسكَ اللّهُ، قُلتَ: كذَا وكذَا وتلا عليَّ ما أمليْتُه عليه وأنا أعارضُه بالكتاب حَرْفًا حَرْفًا حتَّى انتهَى إلى حيثُ وقَفْتُ عليه، فكادَ عَقْلي يذهَبُ لِمَا رأيتُ منه، وعَلِمْتُ أنْ ليسَ في العالَم مَنْ يَقدر على ذلك إلَّا أنْ


(١) نقل ابن العديم عن كتاب المظفر بن الفضل في كتابه الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) ٤: ١٣٠، من خلال نسخة سيرها له بعض الحلبيين، وكان ذلك قبل اجتماعه بمؤلف الكتاب ببغداد كما يذكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>