قال ابنُ الطَّيِّب: ورَحَلنا عن هذا المَوْضِع يوم الأَحَد لثلاث عشرة ليلة بَقِيَتْ منه، فنَزلنا مَنْزِلًا يُعْرفُ بالنَّاعُوْرَة، بينَهُ وبين المَنْزل الّذي كُنَّا نزلناهُ ثمانية أمْيَال، تكون فَرْسَخين ومِيْلَين، وفيه قَصْرٌ لمَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك من حِجَارَةٍ صَلْدَة ليسَ بالكَبير، وماؤُه من العُيُون الّتي ذَكَرْناها.
قُلتُ: هذا القَصْر كان مَبْنِيًّا من الحِجَارَة السُّود الكِبار المَنْحُوتة، وأدْرَكْتُ أنا قطعةً منه، وهو بُرْج من أبْرِجَةِ القَصْر، وقد انْهدمَ الآن، وتقسَّمت حجارته إلَّا القليل منه.
قال ابنُ الطَّيِّب: ورَحَلنا غَدَاة يَوْم الاثْنَين لاثْنتي عَشرة لَيْلةٍ بقيَتْ من شَهْر ربيع الآخر، فنَزلنا مَدِينَة حَلَب في وَقْتِ ارْتفاع النَّهَار من هذا اليَوم، وبين المَنْزلَيْن ثَمانية أمْيَال تكون فَرْسَخين ومِيْلَين، وأقَمنا بحَلَب إلى انْقِضاء يوم الأرْبَعاء لليلةٍ خَلَتْ من رَجَب.
قال: وعلى حَلَب سُورٌ مُحيطٌ بها وبقلْعتها، كانت الرُّومُ بَنَتْهُ، وبَنَتْ الفُرْس بعْضَهُ أيَّام أَنَوشَرْوان، والقَلْعَة على جبلٍ مُشْرفٍ على المَدِينَةِ، وعليها سُورٌ، وعليها بابا حَديد؛ واحدٌ دونَ الآخر، وفي وسطها قد حُفِرَ إلى الماءِ يُنْزل إليه على مائةٍ وعشرين مِرْقَاة، قد خُرِقتْ تحت الأرْض خُرُوقًا، وصُيِّرت آزاجًا، يَنْفذُ بعضُها إلى بعضٍ إلى ذلك الماءِ، وفيها ديرٌ للنَّصارَي، وفيه امرأةٌ قد سدَّتِ البابَ عليها في وَجْهها منذ سَبْع عَشرة سَنَة. ثمّ يَنْحدرُ السُّور إلى المَدِينَةِ من جانبي القَلْعَة. ولها ستَّة أبواب، تُعْرفُ: باب العِرَاق، وباب قِنَّسْرِيْن، وباب أَنْطاكِيَّة (a)، وباب الجِنَان، وباب اليَهُود، وباب أربعين؛ وهو ممَّا يلي القَلْعَة، ومن جانبها الآخر باب العِرَاق.
(a) ضبطها ابن العديم هنا بتشديد المثناة التحتيّة، وهو أحد وجوه ضبطها، وتأتي كذلك في الشعر كما سيرد فيما بعد عند كلام ابن العديم عليها، وقد تحاشي ضبط الكلمة حيثما وردت فيما مضى، وقد أبقينا على ضبطها كيفما وردت؛ سواء بالتَّخفيف أو التَّشديد، واعتمدنا التخفيف في المواضع الّتي أغفل الضبط فيها.