للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان إمَامًا بلا مُدَافَعَةٍ في القِرَاءَات، والحَدِيْثِ، ومَعْرفَةِ الرِّجال،

والأنْسَابِ، والفَرَائِض، والحِسَاب، والشُّرُوط، والمُقَدَّرَاتِ، وكان إمَامًا أيضًا في فقه أبي حَنِيْفَة وأصْحَابه، وفي مَعْرفَة الخِلَاف بين أبي حَنِيْفَة والشَّافِعيّ، وفي فِقْه الزَّيْدِيَّة، وفي الكَلَام.

وكان يَذْهَبُ مَذْهَب الحَسَن (a) البَصْرِيّ رَحِمَهُ اللّهُ، ومَذْهَب الشيْخ أبي هاشِم، وكان قد حَجَّ بَيْتَ اللّه وزَار القَبْر، ودَخَلَ العرِاقَ، وطَاف الشَّامات والحِجَاز وبلادَ المَغْرب، وشَاهَدَ الرِّجال والشُيُوخَ، وقرأ على ثلاثةِ آلاف رَجُلٍ من شُيُوخ زمانهِ، وقَصَد أصْبَهَان لطَلَب الحَدِيْث في آخر عُمْرِه، وكان يُقالُ في مَدْحهِ وتقرِيْظهِ: إنَّهُ ما شَاهد مثْلَ نَفْسهِ.

وكان مع هذه الخِصَال الحَيْدة زَاهِدًا، وَرِعًا، مُجْتَهِدًا، قَوَّامًا، صَوَّامًا، قَانِعًا، رَاضيًا، لم يتحرَّم في مُدَّهِ عُمْره - وقد أتَى عليه أرْبعٌ وسبْعونَ سَنَةً - بطَعَام أحدٍ، ولم يُدْخِل إصْبَعَهُ في قَصْعَة إنْسَان، ولم يكن لأحدٍ عليه مِنَّةٌ ولا يَدٌ في حَضَرِه ولا سَفَره.

ماتَ، رَحِمَهُ اللّهُ، ولم يكن له مَظْلمةٌ ولا تَبعَةٌ من مالٍ ولا لسَان، كانت أوْقَاتُه مَوقوفَةً على قراءة القُرْآن والتَّدْرِيس والرِّوَايَة، والإرْشَادِ والهِدَايَة، والوِرَاقَة، والعِبَادَة، خلَّف ما جمعَهُ في طُول عُمُره من الكُتُب وَقْفًا على المُسْلمِيْن.

كان، رَحِمَهُ اللّهُ، تارِيخ الزَّمان، وشَيْخ الإسْلَام، وبَقِيَّة السَّلَف والخَلَف. ماتَ وما فاتَهُ في مرضه فرِيْضَةٌ ولا واجبٌ من صَلَاةٍ وغيرها، وما سَال منه لُعابٌ، ولا تَلوَّث له ثِيَابٌ، ولا تغَيَّر لونُه.

كان مع ما بهِ من الضَّعْف، وتَسَاقط القُوَّة يُجَدِّدُ التَّوْبَة، ويُكْثر الاسْتِغْفَار،


(a) الجواهر المضية: أبي الحُسَيْن.

<<  <  ج: ص:  >  >>