للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من ذلك، ثمّ أكْرَهَها، ورَقَدا جَمِيعًا، فمكثا هَوِيًّا من اللَّيْل، ثمّ قامَا، وعاد الرَّجُل إلى نَوْمِه، وقامَت الجَارِيَة فنزلَتْ فاعْتَرَضْتُها في سَنِم الوَادِي، فقلتُ لها: ممَّن أنت؟ قالت: من هذا الحَيّ، قلت: اجْلِسِي، أتَعْرفيني؟ قالت: لا، قُلتُ: أنا الأعْسَرُ، وقد رأيتُكِ وما صَنَعْت مع مَحْبُوبٍ، فاكْتُمِي عليَّ أكْتُم عليكِ، قالت: قُلْ يا إنْسَان، فواللَّه لا تقُول شيئًا بعدما رَأيتنا إلَّا ويكُون عندي كقول الشَّاعِر: [من الطويل]

جَعَلْتُ فُؤادِي مقْبَرًا لسِرَارِه … فما أنْ له طُوْلَ الزَّمان ظُهُور

كذا المَيْتُ لا يرجُوا الخُرُوجَ ولا … اللِّقَا ولا النَّشْر إلَّا أنْ يكُون نُشُور

قُلتُ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، إعْلَمي أنَّ هذه الصَّيْقَل حبَّتي، وقد أتيْتُ اللَّيْلةَ أُريدُ أَخْنِسُهَا (١)، فأُرِيْدُ أنْ تتوَصَّلي إليها وتقُولين لها: إنَّ الأعْسَرَ بوَادِي الأَرَاك ومعهُ دَابَّتُه الحَنْفَاء، ومَوْعدُك الشَّجَرات فاخُرجي، قالت: وكَرَامَة، ومَضَتْ، وأتَيْتُ أنا الوَادِي فعَقَلْتُ فَرَسي وأتَّفَقْتُ بالرَّجُل، فقال: ممَّن أنْتَ؟ فأعلَمْتُه أنِّي قد رأَيْتُهما وقُلتُ: حَدِّثني حديثَكَ، قال: إعْلَم أنَّ هذه ابنَة عَمِّي، وأنَّ أسد -لَعَنَهُ اللَّهُ- أغارَ علينا، ونحنُ من بني كِنَانَة، فأخَذَ نِسْوَان جَمَاعَةٍ اسْتَعْبَدَهُم منهُنَّ ابنَةُ عَمِّي، وكُنْتُ أجدُ بها وجْدًا عَظيْمًا، فلمَّا فقَدْتُها ضَاقَتْ عليَّ الأرْض بما رَحُبت، ولم أزل أتَوَصَّلُ حتَّى خَدمْتُ أخَاهُ خُفَافًا في غَنَمِه، فكُنَّا نَجْتَمع في كُلِّ ليلةٍ، فلمَّا قُتِلَ خُفَاف صِرْتُ معه، وقد رَضيْتُ منها بهذا، ولا أقدرُ أَخْنِسُهَا لئلَّا يتبَعُنا ويأخُذنا؛ وله عُيُون ومَرَاصدُ، فقد قنعْتُ بهذا، وبَكَى فرحَمْتُه.

وأنا أُحَدِّثُه إذ زعقَ زَعْقةً أفْزَعني، فنظرتُ فإذا أفْعَى عَظيمٌ أسْوَدُ سَالِخٌ قد لدَغَهُ، فاضْطَرب سَاعةً وخَمَد، فأصَابني واللَّه أمرٌ عظيم، ووقفتُ نصْفَ الطَّريق أنْتَظر النُّصَيْرَة، وإذا بها قد أقْبلَتْ، فقالت: قد عَرَّفْتُها فقالت: سَوْف أخْرُج، وهي اللَّهِ فَرْحَانةٌ بذلك، فعَرَّفْتُها أمرَ حَبِيْبها المِسْكِين، فبَكَت بُكَاءً


(١) الخَنَسُ: الأخذ، وخَنس من ماله: أخذ. لسان العرب، مادة: خنس.

<<  <  ج: ص:  >  >>