للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلتُ: وبعد أنْ أقام البُرْسُقِيّ بحَلَب، ورَتَّب أحْوَالها، تَرَك ولدَهُ بها، وعادَ إلى المَوْصِل فقَتَلهُ الإسْمَاعِيْليَّةُ بها على ما نَذْكُره.

قال لي شَيْخُنا أبو الحَسَن عليّ بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَريم الجَزَرِيّ (١): كان آقْ سُنْقُر البُرْسُقِيّ خَيِّرًا، عَادِلًا، لَيِّنَ الأخْلَاق، حَسَنَ العِشْرة مع أصْحَابهِ.

قال لي (٢): أخْبَرَني أبي مُحَمَّد بن عَبْد الكَريم، قال: حَكَى بعض الغِلْمَان الّذين كانوا يَخْدمُون البُرْسقِيّ، قال: كان يُصَلِّي البُرْسُقِيّ كُلَّ لَيْلَةٍ صلاةً كَثِيْرةً، وكان يتوضَّأ هو بنَفْسه ولا يَسْتَعِين بأحدٍ. قال: فرأيتُهُ في بعض ليالي الشِّتَاءَ بالمَوْصِل وقد قام من فراشه، وعليه فَرجيَّة وَبَرٍ صَغيرةٌ، وبيدِه إبْرِيْق نُحاسٍ، وقد قَصَدَ دِجْلَةَ ليأخُذَ ماءً يتوضَّأ بهِ، قال: فلمَّا رأيتُهُ قُمْتُ إليه لآخُذَ الإبْرِيْق من يده، فمنعَني، وقال: يا مِسْكِين، ارْجع إلى مكانك فإنَّهُ بَرْدٌ، فاجْتَهَدْتُ به لأخْذِ الإبْرِيْق من يده، فلم يَفْعل، ولَم يزل حتَّى ردَّني إلى مكاني ثمّ توضَّأ ووَقَفَ يُصَلِّي.

قال: وذَكَر لي من أحْوَاله الحَسَنةِ أشْيَاءَ يَطُول ذِكْرُها.

سَمِعْتُ شَيْخَنا الصَّاحِبَ قاضِى القُضَاة بَهَاءَ الدِّين أبا المَحَاسِن يُوسُف بن رَافِع بن تَمِيْم، يقُول: كان البُرْسُقِيّ دَيِّنًا عَادِلًا. قال: وممَّا يُؤْثَر عنهُ أنَّهُ قال يَوْمًا لقاضي المَوْصِل -أظُنُّه المُرْتَضَى بن الشَّهْرَزُورِيّ-: أُرِيْدُ أنْ تسُاوِي بين الرَّفِيعْ والوَضِيعْ في مَجْلِس الحُكْم، وأنْ لا يَخْتَصّ أُولُو الهَيْئات والمَرَاتِب بزيادةِ احْترام في مَجْلِس الحُكْم، فقال له القَاضِي: وكيفَ لي بذلك؟ فقال: ما لهذا طَرِيقٌ إلَّا أنْ تَرْتادَ خَصْمًا يُخَاصمُني في قَضِيَّةٍ ويَدْعُوني إلى مَجْلِس الحُكْم، وأحْضُر إليك وتَلْتَزم معي ما تَلْتزمُه مع خَصْمِي، وسَوْف أُرْسِل إليك خَصْمًا لا تَشُكّ في أنَّهُ خَصْمٌ لي، ويدَّعي عليَّ


(١) ابن الأثير: التاريخ الباهر ٣١.
(٢) ابن الأثير: التاريخ الباهر ٣١، وأدرج الخبر في كتابه الكامل في التاريخ ١٠: ٦٣٤ باختلاف يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>