للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وممَّا نقَلَهُ من خَطِّ ابن بَرْهَان: قال أبو الفَتْحِ: وكان أبو عليّ، رَحِمَهُ اللهُ، كَثِيْرًا ما يَرُومُ إبرازَ الشَّيء إلى لَفْظه وهو نَصْبُ عَيْنه، ونَجِيُّ فِكْره، وسَاتِرُ بينِه وبين كُلّ مَرئيّ غيره، إلَّا أنَّهُ مع ذلك مُعَازِلُه مُتَأبٍّ عليه غير مُسْمِح ولا مُنْقادٍ معه، فإنْ لم يَكُن إلَّا آخِذُ عنه سَهْلَ المَذْهَب سُرْحَهُ، طَيِّع الطَّبْع سُجَحَهُ (١)، قد جَاوَدَهُ (a) إلى الأمَد، وقاوَدَهُ إلى الخَبَار والجَدَد (٢)، وفَاتَشَهُ الأنْقَاب، وصَحِبَهُ في كُلِّ أوْبٍ وباب، أَجْبَلَا فلم يُنْبطا، وكانا (b) حريّ أنْ يُحْتذَى ويخْتَلِطا، ثمّ كيف لنا بعْدُ بساعةٍ من سَاعاته، ونَفْثَةٍ من رَقَياته، وعَفَا اللهُ عنهُ فَما أقَلّ العَوَض في هذا السَّوَاد منه.

قَرأتُ بخَطِّ سَعيد بن المُبارَك بن الدَّهَّان النَّحْوِيّ: ذَكَرَ أبو الفَتْحِ في النَّوَادر (٣) أنَّ كُتُب أبي علَيّ الفَارسِيّ احْتَرَقت بالبَصْرَة في رَبِيع الأوَّل سَنَة خمْسٍ وثَلاثِمائة بدار أبي الرَّيَّان الأهْوَازِيّ الكَاتِب، وكان قد أسْكَنه إيَّاها، ولَم يكُن بالدَّار تلك السَّاعَة، فلمَّا عَلِمَ جاء إلى الدَّار فوقَع من غُلَامه المِفْتاح، وكان الخَشَب سَاجًا فلم يَنْكَسر، فصَعَدُوا إلى السُّطُوح، وكان للدَّرَجة بابٌ مُغْلَقٌ فلَم يَنْفَتح، وقَويَت النَّار فحالَتْ بينه وبين الكُتُب، وكان في الدّار أثاثٌ كَثِيْر لصَاحِبها، فغُشِيَ على الشَّيْخ، وحُمِلَ على الظَّهْر إلى دَارٍ أُخرى لأبي الرَّيَّان، فبقي يَوْمًا وليلة لا يَنْطق، وثلاثة أيَّام لا يَأكُل ولا يشرب إلَّا اليَسِير بالكَرَاهيَّة، وبقي وَاجِمًا سَنَةً لا يُقْرئ ولا يَقْرأ. وكان أبو الرّيَّان يَخْدمه ويُسليه بكُلِّ ما يَقْدر عليه، وكانت الكُتُب أرْبَعمائة


(a) كذا في الأصل مجردًا.
(b) كذا في الأصل، والجادة أن يقال: كان.

<<  <  ج: ص:  >  >>