للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت عَوَاصِم هذه الثُّغُور من ناحيةِ الشَّام: أَنْطاكِيَة وبلاد الجُوْمَة وقُورُس.

فأمَّا أهْل هذه الثُّغُور، ومَنْ كان يَسْكنها، وأحْوال البِلاد، ومَقادِيرها؛ فإنَّ طَرَسُوس كانت أجَلّها مَدِينَةً، وأكثرها أهْلًا، وأغَصّا أسْوَاقًا، وليس على وجهِ الأرْض مَدِينَةٌ جليلةٌ إلَّا ولبَعْضِ أهْلها دار حُبْس (a) عليها، حبْسٌ نَفِيس، وغِلْمَان برَسْم تيكَ الدَّار، بأحْسَنِ العُدَّة، وأكْمل الآلةِ، يقُوم بهم الحُبْس الّذي عليهم، وكان أكثر ذلك لأهل بَغْدَاد، فإنَّه كان لهم بها - ولغيرهم من وجوه أهل البُلْدان، وذَوِي اليَسَار منهم - جِلّة الغِلْمَان، مُقيمين عليهم الوُقُوف السَّنِيَّة، والأرْزاق الدَّارَّة، ليس لهم عَمَلٌ إلَّا ارْتباطَ فَرْهَة الخَيْل، وتخريجها في الطِّرَاد، والعَمل عليها بسائر السِّلاح، يَعْملون ذلك في صُدُور أيَّامهم، وَيَتَصَرَّفونَ في أعْجَازها إلى منازل فَيَّاحة فيها البَساتِيْن، والميَاه الجاريَة، والعَيْش الرَّغْد.

وكان أهْلُ البَلَد في نُفُوسهم على هذه الصِّفَة؛ من ركُوب الخَيْلِ، والعَمَل بالسِّلاح، ليس فيهم مَنْ يَعْجز عن ذلك، ولا يَتَخَلَّف عنه حتَّى أنَّ دور (b) المتاجر الدَّنِيَّةِ والصَّنَائع الوَضِيْعَة، كانوا يلحَقُون بالطَّبقة العُلْيا في الفُرُوسِيَّةِ والشَّجَاعَةِ وارْتِباطِ الخَيْلِ، وإعْدَاد السِّلاح. وكانت غزواتُهم تَتَّصِل، ومن الغَنائِم والمَقَاسِم لهم مَعِيْشة لا تَنْقَطع.

فأمَّا أهْلُ البَلَدِ؛ فكانوا من سَائر أقْطَار الأرْض، بخَلْقٍ حَسَنٍ، وألْوان صَافيَة، وفيهم رَقيق، وأجْسَام عَبْلَةٌ، والأغلَب على ألوانِهم البياضُ والحُمْرَةُ والسُّمْرة الصَّافِيَة، وكان في أكثرهم جَفَاءٌ وغِلْظة على الغَريب، إلَّا مَنْ كان منهُم قريب عَهْد بالغُرْبةِ، وكذلك الشُّحّ كان فيهم فاشِيًا إلَّا في الغَريب، وغَلَب


(a) كذا ضبط الباء بالسكون حيثما ترد، والمشهور الضم.
(b) كذا في الأصل و"ك"، ولعل الأظهر: ذوي.

<<  <  ج: ص:  >  >>