للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إسْحَاق، رَضِيُّ أميْر المُؤْمنِيْن رَضِي اللَّه عَنْهُ، في ظَاهِر نَهَاوَنْد وهو سَاِئِرٌ إلى العِرَاق؛ قَتَلَهُ إنْسَانٌ دَيْلهَيٌّ غِيْلَةً بعد الفِطْر لَيْلَة الجُمُعَة حَادِي عَشر منه.

وكانَ مَوْلدُهُ في ذي القَعْدة من سَنَة ثمانٍ وأربعمائة، وبقي في الأمْر وَزِيْرًا، ونَاظِرًا، ومُشْرفًا نحو خَمْسِين سَنَةً، وبَلَغَ في الوِزَارَة ما لَم يَبْلُغْهُ أحَدٌ من وُزَرَاءِ الدَّوْلَتَيْن، وكان يُضْربُ له الطَّبْلُ والقِصَاعُ ثَلاثَ صَلَوات حَضَرًا وسَفَرًا، وهو الَّذي بَنى الدّوْلَة السَّلْجُوقيَّة وأَسَّس قَوَاعِدَها، وتَفَتَّحَت الدُّنيا على يَدَيهِ، وكان صَدُوقَ اللِّسَان، جَيِّدَ الرَّأي، كَبِيْرَ النَّفْس، حَلِيْمًا، وَقُورًا، يُصَلِّي باللَّيْلِ، ويَصُومُ في أكْثَر الأوْقَاتِ.

وهو أوَّلُ وَزِيرٍ بَنَى المَدَارِسَ في البلادِ، وأجْرَى على المُدَرِّسيْن، والمُتَفَقِّهَة، والأُدَبَاءِ والشُّعَراء، وأهْل البُيُوتاتِ، والرُّؤسَاء. ولم يَنْظُر قَطّ إلى ظَهر مَحْرُوم، وما قَصَدَهُ أصدٌ في أمْرٍ إلَّا نالَهُ أو مُعْظَمَهُ، فأمَّا الحِرْمان فلا. ولم يَبْقَ عليه من عَظيم المُلْك غير ما فَعَلَهُ وبَناهُ وخَلَّدَ بهِ ذِكْرَهُ في العَالَم، وفاقَ به على جميعِ مَنْ تَقَدَّم، رَضِي اللَّهُ عنهُ وأرْضَاهُ، وأحْسَنَ له الجَزاءَ عنِّي، فلقد وَصَلني في سَبْع سَفرات بألْفٍ وأرْبَعمائة دِيْنارٍ مِنْ مَاله، غير الثِّيَاب والنُّزُل والإقامَة، وأَجْرَى عليَّ من مال بَيْت المَال سَبْعمائة دِيْنار وعِشْرين دِيْنارًا في كُلِّ سَنَةٍ، ووَلَّاني قَضَاءَ الرَّحْبَة والرَّقَّة وحَرَّان وسَرُوْج وحَلَب وأعْمَالِ ذلك كُلّه، وخَاطَبني بالقَاضِي السَّدِيْد العَالِم، بَحْر العُلَماءِ، عَيْن القُضَاة، في مُكَاتبته إليَّ، فأحْسَنَ اللَّهُ له عنِّي الجَزَاءَ.

وكان يُكْرِم العُلماءَ على اخْتِلَاف مَذَاهِبهم، وله فَضْلٌ وكَرَمٌ، وبَصِيْرةٌ بالرِّجَال، قَرِيبٌ مِن القُلُوب، لا يَتَشَاغَل إلَّا بتِلَاوَة القُرْآن وسَماعِ حَديث رسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، ومُنَاظَرة الفُقَهَاء بينَ يَدَيْهِ، وتقَدَّم في زمَانِهِ مَن لَم يَكُن مُتَقَدِّمًا من الرِّجَال، وتأخّر مَنْ كان مُتَقدِّمًا، واسْتَرْجعَ المَمَالِكَ كُلّها، وقَبَضَها إلى السُّلطان.

<<  <  ج: ص:  >  >>