من قُوَّادِ الرّجَّالَة الّذين ذَكَرتُ، وصَحِبَهُ في نَفِيْره وغَزْوِه، وارْتادَ لنَفْسهِ الرِّفاق بحَسَب ما يَخْتَار تِرْبَهُ وجَارَهُ وقَرينَهُ، فإذا الْتَحَى، وخَرَجَ عن حَدّ المُرْد، دَخَل في جُمْهُور النَّاس، حَاذقًا بما يحتاج إليهِ، مَاهرًا بصيْرًا بأمر جِهادهِ وتَدبير أمْرِه، ناقدًا يَقظًا إنْ شَاءَ اللهُ.
ووَقَع إليَّ قَصِيدَة الأعْلَام، وهي أُرْجُوزَة نَظمها أبو عَمْرو القَاسِمُ بن أبى دَاوُد الطّرَسُوسِيّ، يَذْكُرُ فيها رحلتَهُ من طَرَسُوس، ويتشَوَّقُها، ويَصف أوْضَاع المُجَاهِدينَ فيها، وقد شَرَحْنا في تَرْجَمَتِهِ (١) من كتابنا هذا صُورة القَصِيدَة، قال فيها في وَصْف طَرَسُوس: [من الرجز]
يذكُر قَوْمي عنهُم إرتحالي … وتَرْكَ دَارِي جانبًا ومَالي
تَرْكي سِجِسْتَان من المَعَالِي … مَا لي ودَارٌ للغُواةِ مَا لِي
لبئسَ ما بُدّلتُها مَزَارًا … زَرَنج من طَرْسُوس لا مُخْتارا
طَرسُوس أرْضُ الفَضْل والجِهادِ … ومُنْتهى الرَّغْبَةِ للعُبَّادِ
تيكَ بِلَادِي وبها تلَادِي … ومَألفي ومَعْدِن الرَّشَادِ
سُكَّانها أهْل البَلَاء والجلَد … غُلامُهم لَدَى الحُرُوب كالأَسَدْ
وَكَهْلهُم في المُعْضِلَات مُعْتَمد … وشَيْخهم لِكُلِّ خَيْرٍ مُسْتنَد
أهْل فَضِيْلَات وأهْل سُنَّة … للعائفين والغَرِيْب جُنَّة
حُبُّ النَّبِيّ فيهمُ ما إنّه … هَدَاهُمُ الله طَرِيْق الجَنَّة
قَد دوَّخُوا بالضَّرْب في الحَقَائق … بكُلِّ قطَّاعٍ من البَوارق
هَامَ العِدَى والوَخْز بالمَزَارِق … والطَّعْنِ بالْخَطّي في الحَمَالِق
بالسَّمْهَريَّات من الرِّمَاح … يختطِفُونَ شِكَّةَ الأرْوَاح
(١) ترجمة القاسم بن أبي داود الطرسوسي في الضائع من الكتاب.