للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال لي يَوْمًا: ما نَرْضَى بالخُمُول الّذي نحنُ فيه، فقُلتُ لَهُ: وأيّ خُمُول هُنا!؟ تأخذُونَ من مَوْلَانا - خَلَّدَ اللّهُ مُلكَه - في كُلِّ سَنَه ستَّة آلاف دِيْنارٍ، وأبُوكَ من شُيُوخ الدَّوْلَة، وهو مُعَظَّمٌ مُكَرَّم، فقال: أُرِيْدُ أنْ تصَار إلى دِيْوَاننا (a) الكَتَائِبُ والمَوَاكبُ والمَقَانِبُ (١)، ولا أرْضَى بأنْ يُجْرَى علينا كالوِلْدَان والنِّسْوَان! فأعدْتُ ذلك على أبيهِ، فقال: ما أخْوَفَني أنْ يَخْضِبَ أبو القَاسِمِ هذه من هذه، وقَبَضَ على لِحْيَته وهَامَتِهِ. وعَلم أبو القَاسِم، فصَارَتْ بيني وبينَهُ وقْفَةٌ.

وذَكَرَ دَوْخَلَة (٢) أيْضًا في هذه الرِّسَالَة أنَّهُ دَخَلَ أنْطَاكِيَةَ، وخَرَجَ منها إلى مَلَطْيَة وبها المَايَسْطُرِيَّةُ خَوْلَة بنْتُ سَعْد الدَّولَة، قال: فأقَمْتُ عندَها إلى أنْ وَرَدَ عليَّ كتابُ أبي القَاسِم، فسِرْتُ إلى مَيَّافَارقِين، فكان يُسِرُّ حَسْوًا في ارْتِغَاءٍ (٣). قال لي يَوْمًا: لي أيَّامُ ما رأيتُكَ؟ قُلتُ: أَعَرَضَت حَاجَةٌ؟ قال: لا، أرَدْتُ أنْ ألْعَنَكَ، قلتُ: فالْعَنِّي غائبًا، قال: لا، في وَجْهكَ أشْفَى، قُلتُ: ولَمَ؟ قال: لمُخَالفَتِكَ إيَّاي فيما تَعْلَم.

وقُلْتُ له ونحنُ على أُنْسٍ بيني وبينَهُ: لي حُرُمات ثلاثٌ (b) : البَلَدِيَّةُ، وؤية أبيهِ لي، وتَرْبيَتي لإخْوَته، قال: هذه حُرمٌ مُهَتَّكَةٌ: البَلَدِيَّةُ نَسَبٌ بين الجِيْرَان، وتَرْبية أبي لك مِنَّةٌ لنا عليكَ، وتَرْبِيَتُكَ لإخْوَتي بالدَّنَانِيْر والخلعَ!.

أرَدْتُ أنْ أقُولَ لهُ: اسْتَرَحْت من حيثُ تَعِبَ الكِرَامُ، لخشَيْتُ جُنُونَهُ (c)، لأنَّهُ كان جُنُونُه مَجْنُونًا، وأصَحّ منه مَجْنُون، وأجَنُّ منهُ لا يكُون. وأُنْشدَ (d): [من الطّويل]

جُنُونكَ مَجْنُونٌ ولَسْتُ بوَاحِدٍ … طَبِيْبًا يُدَاوِي من جُنُونِ جُنُوِن


(a) رسالة ابن القارح: أبوابنا.
(b) الأصل: ثلاثة.
(c) رسالة ابن القارح: جنون جنونه.
(d) رسالة ابن القارح: وقد أُنشد.

<<  <  ج: ص:  >  >>