للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه، وكانت هِمَّتُه إليه مَصْرُوفة، فعادَتْ بَرَكتُه عليه فعُمِّر عُمْرًا طَوِيْلًا، وانْتَشَرت عنه الرِّوَايَةُ، ورَحَل إليه طُلَّابُ العِلْم من الأقْطَارِ لقِرَاءةِ القُرآن عليهِ والحَدِيْث والأدَب، وتَفَرَّد بأكْثَر مَرْوياتِهِ، وكان يَرْوِي كَثِيْرًا من كُتُب الأدَب ودَوَاوِين الشِّعْر، ويَكْتُب خَطًّا مَلِيْحًا.

ولمَّا مَاتَ شَيْخُه أبو مُحَمَّد قَام مَقَامَهُ في مَسْجِده، وأَمَّ النَّاسَ فيه أيَّامًا، وله نيّفٌ وعشْرون سَنَةً، ثُمَّ إنَّهُ سَافر عن بَغْدَادَ في سَنَة ثَلاثٍ وأرْبَعين، ودَخَلَ هَمَذَان، وأقام بها سِنِينَ يتفَقَّهُ على مَذْهَب أبي حَنِيْفَة (a) على سَعْد الرَّازِيّ بمَدْرَسَةِ السُّلْطان طُغْرِل، ثمّ إنَّ وَالدَهُ (b) حَجَّ في سَنَة أرْبَعٍ وأرْبَعين فماتَ في الطَّريق، فلمَّا بَلَغَهُ خَبَرُه عاد إلى بَغْدَاد وأقام بها مُدَيْدَة.

ثُمَّ تَوَجَّهَ إلى الشَّام، واتَّصَل بالمَلِك عِزّ الدِّين فَرُّخْ شَاه بن أَيُّوب (c)، أخي صَلاح الدِّين مَلِك الشَّامِ ومِصْر، ونال منه مَنْزِلةً رَفِيعةً واسْتَوْزَرَهُ، فلمَّا تُوفِّي فَرُّخْ شَاه اتَّصَل بأخيه تَقِيّ الدِّين عُمر صَاحِب حَمَاة، واخْتصَّ به، ودَخَلَ ديار مِصْر، ورَأى من الجاهِ والتَّعْظِيم ما لَم يَرَهُ أحدٌ، وكَثُرت أمْوَالهُ، ثمّ إنَّهُ سَكَنَ في آخر عُمْرِه بدِمَشْقَ إلى حين وَفَاته، وكان المَلِكُ المُعَظَّم عِيسَى ابن المَلِك العادِل أبي بَكْر بن أَيُّوب صَاحِب دِمَشْق يَقْرأ عليه الأدَب ويَقْصدُه في مَنزله، ويُعَظِّمه ويُبَجِّلُه.

رَحَلْتُ إليه قَاصِدًا من مَكَّة، وكُنْتُ بها مُجَاوِرًا، وقَرآتُ عليهِ كَثِيْرًا من الحَدِيثِ والأدَب، وكان يُوَاصِلُني بما أُنْفقُه، ويَجْلِسُ لي خَاليًا للقِراءَةً عليهِ، وكانت هذه عادتُهُ في إكْرَام الغُرَبَاءَ.


(a) ق: رحمة الله عليه.
(b) ق: ولده.
(c) أشَّر عليه ابن العديم في الأصل بكتب علامة "صـ" فوقه، لأنه أسقط اسم أبيه: شاهنشاه ونسبه تجوّزا إلى جِدِّه.

<<  <  ج: ص:  >  >>