للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَسَن الصُّورَةِ، مُعْتَدل القَامَة، تَامّ الخَلْقِ، فازْدَاد قَيْصَر -لمَّا رَأى من حَالهِ في ذلك- ارْتيابًا في أَمْره وأحَسَّ بأنَّهُ لَمْ يَصْدُقه عن نفسه، فألَحَّ عليه في السُّؤَالِ، وقال: ما صَدَقْتَنا عن خَبَرك، فقال سَابُور: أمَّا إذا أَبَيْتُم إلّا التَّقَصِّي عن أمْرِي فإنِّي لا أجِدُ من صدْقكم بُدًّا، أنا من أَسَاورَة فَارِس، وكان وَالدِي قد أجْرَم إلى مَلِكنا جُرْمًا عَظيْمًا فقَتَلَهُ، واسْتَصْفَى مالَهُ، فتَخَوَّفْتُه على نَفْسِي، فلَحِقْتُ بكم وقد أصَابَنِي فَقْرٌ ومَسْكَنَةٌ، فأتَيْتُ هذا المَوضِعَ لِمَا بي من الجُوع والجهْد والفَاقَة، فَرَقُّوا له وظنُّوا أنْ قد صَدَقهُم عن نَفْسِه، فهمُّوا بتَخْلية سَبِيلِهِ، فأبَى ذلك العَالِم عليهم أنْ يُخَلُّوه، ونَظَر في حِسَابهِ فأتَاهُ في ذلك ما وَافَق ظَنَّهُ، وقال: اعْلمُوا أنَّ هذا سَابُور نَفْسُه، فاسْتَوْثِقُوا منه واشْتَدُّوا عليه حتَّى يُعْلمكم أمْرَهُ، فاشْتَدّ عليه قَيْصَر عند ذلك، وتَوَعَّدَهُ بالقَتْلِ، وجَعَل له الأمَان على أنْ يُحقِّق له الخَبَر عن أمْه، فقال لهم سَابُور: عَجَبًا لكم ومن طَمَعكم بي أنْ يُؤثر سَابُور الجهْدَ والحاجَةَ والجُوع في بلاكم على المَقَام في مُلكه ونِعْمته، فلَم يَقْبَلُوا ذلك منه، ولَم يُخلُّوا عنه حتَّى اعْتَرَفَ لهم سَابُور، فاشْتَدّ فَرحَ قَيْصَر وجُنُودِه وقالوا: قد أعْظَم اللّهُ علينا النّعْمَةَ فسَاق إلينا عَدُوّنا وأمْكَنَنا منه، فنحنُ مُنْتَقِمُون منه، ومُنْزلون به وبأرْضه ما أجْرَم إلينا سَابُور الأوَّل.

فأمَرَ قَيْصَر بسَابُور، فُجُعِلِ في نُقْرةٍ جَوْفاءَ من جُلُود البَقَرِ، ثمّ أطْبقَ عليه وألْزَمَهُ الرُّقَبَاءَ والحَفَظَة. وسار بِجُنُوده إلى أرْض فَارِس، ثُمّ أرْسَل إليهم: أنِّي قد أخَذَتُ مَلِكَكُمُ، فإمَّا أنْ تَفْتَدُوه، وإمّا أنْ أقتُلَهُ، وأمَرَ سَابُور أنْ كَتَبَ إلى أهْل أرْضه، فيُرسِل أهْلُ كُلّ مَدِينَةٍ بما يَسْألهم، فجَعَل لا يَنْزل بأرْضٍ إلّا أخْرَبها، وجَعَلَت الأعَاجِم تَتَّقِيهِ بكُلّ ما قَدَرت عليه، فكَثُر منه القَتْلُ والإخْرَاب في مَدَائنهم وقُرَاهم والعَقْر في نَخْلهم وشَجَرهم، وسَابُور معه يَسِيْر به حيثُ ما تَوجَّه،

<<  <  ج: ص:  >  >>