للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشِّتَاء؟ قال: نَعَم، كان يَنْبُتُ حَوْلَ الكُوْخِ من هذا البَرْدِيّ الجَافي فيُخْصِب في الشِّتَاء، فأقْلَعُه فما كان منه في التُّراب يَخرُج غضًّا (a) أبْيَضَ فآكُلُه، وأرْمي بالأخْضر الجَاسِي، فإن هذا قُوْتي إلى أنْ نُوْقِرْتُ (b) في سِرِّي: يا أبا الخَيْر، تَزْعُم أنَّك لا تُشَاركُ الخَلْقَ في أقْوَاتِهم، وتُشِير إلى التَّوَكُّلِ، وأنتَ في وَسَط المَعْلُوم جَالِسٌ!؟ فقُلتُ: إلهي وسَيِّدِي ومَوْلاي، وعِزَّتكَ لا مَددْتُ يَدِي إلى شيءٍ ممَّا تُنْبِته الأرْضُ حتَّى تكونَ أنتَ المُوْصِل إليَّ برِزْقي من حيثُ لا أكُون أنا أوَّلًا فيهِ، فأقَمتُ اثْنَى عَشر يَوْمًا أُصَلِّي الفَرْضَ وأتَنَفَّلُ، ثُمَّ عَجَزتُ عن النَّافلةِ، فأقْمتُ اثْنَى عَشر يَوْمًا أُصَلِّي الفَرْضَ والسُّنَّةَ، ثمَّ عَجِزتُ عن السُّنَّةِ فأقمتُ اثْنَى عَشر يَوْمًا أُصَلِّي الفَرْضَ لا غير، ثُمّ عَجِزتُ عن القيام، فأقَمتُ اثْنَى عَشر يَوْمًا أُصَلِّي جالِسًا، ثمّ عَجِزتُ عن الجُلُوس، فرَأيْتُ إنْ طَرحْتُ نَفْسِي ذَهَبَ فَرْضي، فلجأتُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بسرِّي، وقُلتُ: إلهي وسَيِّدِي، افْتَرضْتَ عليَّ فَرْضًا تَسْألني عنهُ، وقسَمْتَ لي رِزْقًا وضَمِنْتَهُ لي، فتَفَضَّل عليَّ برِزْقي ولا تُؤاخِذني بما اعْتَقَدت معك، فوعِزَّتك لأجْتَهدنَّ أنِّي لا حَلَلْتُ عَقْدًا عَقَدتُه معك، فإذا بين يَدَيَّ قُرْصَان (c) بينهما (d) شيء، ولم يَذْكر الشَّيء، ولا سَأله أحدٌ من الجَمَاعَة، قال: فكُنْتُ آخُذُه على الدّوم (e) من لَيْلٍ إلى لَيل.

ثمّ طُوْلبتُ بالمَسِيْر إلى الثَّغْر، فسِرْتُ حتَّى دَخَلتُ فوْمَةَ (f)، ووَافَق ذلك يَوْم جُمعة، فوَجَدْتُ في صَحْن الجامع قَاصًّا يَتَكلَّمُ على النَّاسِ، وحَوْله حَلْقَة، فوقَفْتُ بينهم أسْمعُ ما يقُول، فذَكَرَ قِصَّةَ زَكَرِيَّاء عليه السَّلام والمِنْشَار، وما كان من خطَاب اللَّه عزَّ وجلَّ له حين هَرَب منهم، فنَادَتْهُ الشَّجَرة: إليَّ يا زَكَرِيَّاء،


(a) الأصل، م: "غض"، فوقها في الأصل "صـ".
(b) تاريخ ابن عساكر ٦٦: ١٦٥: نوديت.
(c) الأصل، وم: قرصين، فوقها في الأصل "صـ"، والقُرص بمعنى الرغيف.
(d) م: وبينهما.
(e) كذا في الأصل و م، وعند ابن عساكر: على دور وقتي من الليل إلى الليل.
(f) ابن عساكر: حتى دخلت مصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>