للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانْفَرَجَت له فدَخَلها وانْطَبَقَتْ عليه، ولحَقَهُ العَدُوّ فتَعَلَّقُوا بعَبَاءتهِ، ونادَاهُم الشَّيْطانُ: إليَّ، فهذا زَكَرِيَّاء، فأنَّ أنَّةً، فأوْحَى اللَّهُ إليه: يا زَكَرِيَّاء، لئن صَعدَتْ (a) منكَ أنَّةٌ، ثانية لأمْحُوَنكَ من دِيْوَانِ النُّبُوَّة، فعَضَّ زَكَرِيَّاء عليه السَّلام على الصَّبْر حتَّى قُطِعَ بشَطْرين. فقُلْتُ في نَفْسِي: لقد كان زَكَرِيَّاء صَبَّارًا (b)، إلهي وسَيِّدِي، لئن ابتَلَيْتَني لأصْبرَنَّ.

وسِرْتُ حتَّى دخَلْتُ أنْطَاكِيَة، فرآني بعضُ إخْوَاني، وعَلِم أنِّي أُريدُ الثَّغْرَ، فدَفَع إليَّ سَيْفًا وتُرْسا للسَّبِيل، فدَخَلْتُ الثَّغْر، وكُنتُ حينئذٍ أحْتَشِمُ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ أنْ آوي وَراءَ سُور خيْفَةً من العَدُوّ، فجعَلْتُ مقامي في غابةٍ، فأكُون فيها بالنَّهَار وأخرجُ باللَّيْل إلى شَطِّ البَحْر فأغْرزُ الحَرْبة على السَّاحِل، وأُسْنِدُ التُّرْس إليها مِحْرَابًا، وأتَقَلَّدُ سَيْفي وأُصَلِّي إلى الغَداةِ، فإذا صلَّيْتُ الصُّبْح غَدَوتُ إلى الغَابةِ، فكُنْتُ فيها نَهَاري أجْمعَ.

فبَدَوت (c) في بعضِ الأيَّام فعَبرتُ بشَجَرَة بُطْم قد بلغَ بَعْضُه، وبَعْضُه أخْضَر، وبعضُه أحْمَر، وقد وَقَع عليه النَّدَى وهو يُبْرق، فاسْتَحْسنْتُه وأُنْسِيْتُ عَهْدَ رَبِّي، وقَسَمِي به أنِّي لا أمُدُّ يدي إلى شيءٍ مما تنبتُ الأرضُ، فَمدَدْتُ يَدي إلى الشَّجَرة، فقَطَعْتُ منها عنْقُودًا، وجَعَلْتُ بَعْضَهُ في فَمي وأنا أَلُوْكُهُ، ثمّ ذَكَرتُ العَقْدَ، فرَمَيتُه من يَدي، وبَزَقْتُ ما كان في فَمي، ثمّ قُلتُ: حَلَّت المِحْنَة، ورَميْتُ التُّرْس والحَرْبَة، وجلَسْتُ مَوضِعي يَدي على رَأسِي، فما اسْتَقَرَّ بي جُلُوسي حتَّى دَار (d) بي فُرْسَانٌ، وقالُوا لي: قُمْ، وسَاقُوني حتَّى أخْرَجُوني إلى السَّاحِل، فإذا الأَمِير تُنَاش (e) وحَوْله جَمَاعَة على خُيُول، ورِجَّالة كَثِيْرة، وبينَ يَدَيْهِ جَمَاعَة سُوْدَان


(a) م: لئن أتيت أي صعدت.
(b) ابن عساكر: صابرًا.
(c) ابن عساكر: فبدرت.
(d) الأصل، وم: داروا بي، وفوقها في الأصل "صـ"، وعند ابن عساكر: دار بي.
(e) في الأصل: أمير بياس، وفوقه "صـ"، وصوَّبه ابن العديم في الهامش، وفي م: نباش، وتقدم ذكره في طالع الترجمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>