وبَلَغني أنَّ سُلَيمان بن عَبْد المَلِك هو الَّذي بَناه وتأنَّق في بِنائهِ ليُضاهِي بهِ ما عَمِله أخُوه الوَلِيْد في جامِع دِمَشْق. وقيل إنَّه من بناءِ الوَلِيد، وإنَّهُ نَقَلَ إليه آلة كَنِيْسَة قُورُص، وكانت هذه الكَنِيْسَة من عَجائِب الدُّنْيا. ويُقال إنَّ مَلِكَ الرُّوم بَذَل في ثلاثة أعْمدةٍ كانت فيها سَبْعين ألف دِيْنار، فلم يَسْمح الوَلِيْد لهم بها.
ويُقال إنَّ بَني العبَّاس نقَلُوا ما كان فيه من الرُّخَام والآلات إلى جامِع الأنْبار لمَّا نَقَضُوا آثار بَني أُمَيَّة من بلادِ الشَّامِ وعَفوها، ولم يَزَل على هذه الصِّفَةِ إلى أنْ دَخَل نقَفُور حَلَب في سَنَة إحْدَى وخَمْسِين وثلاثمائة فأحْرقه.
ولمَّا عادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إلى حَلَب، رَمَّ بعض ما تَهَدَّم من الجامِع. ولمَّا مات سَيْف الدَّوْلَة، وتَوَلَّى وَلده أبو المَعالِي سَعْد الدَّولَة شَرِيف بَنى فيه. وبنى فيه قَرْعُويه مَوْلَى سَيْف الدَّوْلَة قُبَّة الفَوَّارة الَّتي في وسطه، طَوَّل عمُودها سَبْعة أشْبار.
وفي هذه القُبَّة جُرْن رُخَام أبْيَض في غاية الكبر والحُسْن؛ يُقال إنَّه كان مَذْبحًا لبَعْضِ الكنائِس الَّتي كانت بحَلَب، وفي دور حافَّاتهِ مَكْتُوب: هذا ما أمَرَ بعَمَلهِ قَرْعُويه؛ غُلَام سَيْف الدَّوْلَة ابن حَمْدَان، في سَنَةِ أرْبَعٍ وخَمْسِين وثلاثمائة.
وبَنى فيه الجِهَةِ الشَّرقيّة القُضَاة بَنوا عَمَّار الَّذين كانوا أصْحاب طَرابُلُس الشَّام" (١).
* * *
"حَكَى كَمال الدِّين ابن العَدِيْم في تارِيْخِهِ: أنَّ وَالده وعمّه أبا غانِم قالا: كان بَعْضُ السَّلَف من أهْلِ حَلَب وأعْيَانها -قال وَالدِي: من الأجْدَاد، وقال عمِّي: من الأقَارِب- مُتَولِّيًا أوْقاف المَسْجِد الجامِع بحَلَب، فجاءَهُ إنْسانٌ لا يَعْرفه، فطَرَقَ عليه الباب ليلًا، ودفَعَ إليه ألف دِيْنار، وقال: اصْرف هذا في وَجْهِ برٍّ ومَعْرُوف، فأخَذَها وأفْكَرَ في وَجْه برٍّ يَصْرِفُ ذلك المال فيه، فوقَع له أنْ يَصْرِفَهُ في عِمارة مَصْنَع لخَزْنِ الماءِ من القَناة، فإنَّ مَنابِعَ حَلَب ماؤها مِلْحٌ، وقد كان العَدُوُّ يَطْرِقُ مَدِيْنة حَلَب كَثيرًا،
(١) الأعلاق الخطيرة ١/ ١: ١٠٤ - ١٠٥، ولم يعين ابن شداد موضعًا لانتهاء النقل، فاكتفيت بإثبات هذا القدر.