"طَرسُوسِ" والمُدنِ والحُصُون المجاوِرَة لها كأَذَنَة والمِصِّيْصَة؛ وهي المُدنُ الَّتي كانت مسْرَحًا لانْطِلَاقِ الحَمَلَات العَسْكريَّةِ تجاه الرُّوم، بل ورَسَم خِطَطَ المَدِينةِ وأَحْياءها وسِكَكها وجَامِعَها، وما قُرّرَ بها على سَبِيلِ الوَقْفِ، وتَرْجَمَ لعُلَمائها، إلى غير ذلك من الإفاداتِ الَّتي تضَمَّنها الكتابُ ممَّا نقَلَهُ ابنُ العَدِيْم. ونُدِيْنُ لابنِ العَدِيْم في مَعْرِفَتِنا بالكتابِ أصْلًا فضلًا عن مادَّته، فلم يَذكُرْه غيرُه، بل إنَّ الحَافِظَ ابنَ عَساكِر - وقد أفْرَدَ للطَّرَسُوسِيّ تَرْجَمَة في تاريخه (١) - لم يَذْكُر له كتابًا!. وبَلَغَتْ نُقُولُ ابنِ العَدِيْم من هذا الكتابِ أكْثَرَ من ثلاثينَ نَصًّا، من بينها خُطْبَةُ الكِتابِ، وجاءَتْ أكْثَرُ نُصُوصِه في الجُزءَ الأوَّل، إضافة إلى ما أوْرَدَهُ مُفَرَّقًا في بعضِ التَّراجم، خاصَّةً ما وَرَدَ في الجُزء العاشرِ الخاصِّ بالكُنَى.
وثَمَّةَ مثالٌ آخرَ يُدَلِّلُ على قِيْمةِ الكتابِ، ويتَّصِلُ بالجُزْءَ الأوَّلِ من عَمَل ابن العَدِيْم (المُقَدِّمة)، يَتَمثَّلُ في البابِ الَّذي خَصَّصَهُ المُؤلِّفُ لإحْصَاءَ ورَصْدِ الوجُودِ السُّكَّاني في حَلَب وجِوَارِها، وعُنْوانُه "بابُ في ذِكْر مَنْ نَزل من قَبائِل العَرَب بأعْمالِ مَدِينة حَلَب، ومَن كان قَبْلَهُم في سَالِف الحِقَب"، وكان مُسْتَنده الرَّئيسيّ في هذه البَحْث كتابٌ اسْمُه:"دِيْوان العَرَب، وجَوْهَرة الأدَب، وإيْضاخ النَّسَب"، لمُؤلِّفٍ خَامِل الذِّكر لَم يُترجِمْ له أحدٌ، اسْمُهُ مُحمَّد بن أحمَد بن عَبْد الله الأَسَدِيّ، من أهْلِ القَرْن الرَّابع الهِجْريّ ظنًّا، وهو كتابٌ مَفْقُودٌ لم يَصِلْنا منهُ سِوى القِطَع والنُّقُول العَدِيْدة الَّتي أوْرَدَها ابنُ العَدِيْم، ولولا هذا المَصْدَر لتَعَذَّرَ علينا مَعْرفةَ القَبائِل الَّتي كانتْ تَقْطُن في جُنْدِ قِنَّسْرين خلال القُرُون الأرْبَعةِ الأُوْلَى، خُصُوصًا بعدَ ضَياعَ القِسْم الخاصِّ بقَبائِل هذا الجُنْد من كتابِ البُلْدان لليَعْقُوبيّ. وأصْبَحَ بإمْكانِنا - بمَعُونَةِ كتابِ الأَسَدِيِّ - تَلَمُّسُ الوجُودِ القَبَليِّ في إقْليم حَلَب "جُنْد قِنَّسْرين"، ومَعْرفَةُ أماكِنِ سُكْنى القبَائِل،