ثُمَّ مَمْلكةُ حَلَبَ فيما بَعد، ورَصَدَ أقْوالَ الجُغْرافيِّيْن، ومُدَوَّناتِهم وإفاداتِهم، وحَفِظَ لنا نُصُوصًا غائبِة - أو في حُكْم الضَّائِعةِ - وكانتْ عَيْنُه البَصِيْرةُ نقَّادَةً لتلك الأخْبار والنُّقول، فعلى سَبيل المثال أطْلَعَنا ابنُ العَدِيْم على نُصُوصٍ جُغْرافيَّة للمُهَلبيّ ممَّا ضَمَّنَهُ كتابهُ المَسَالِك والمَمالِك، المَعْروف اخْتِصارًا بالعَزِيزيّ، والَّتي لَم تَصِلْنا إلَّا من طَريقه وبَعْضُها من طَريقِ صَدِيقه ياقُوِت الحَمَويّ، أَثْبَتَها وتَتَبَّعَها بالنَّقْدِ والتَّصْويبِ والشَّرْحِ والتَّوْضِيح. وحَفِظَ لنا بعض نصُوصِ رِحْلَةِ أبي الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ (ت ٢٨٦ هـ) الَّتي رَافِقَ فيها الخليْفةَ المُعْتَضدَ بالله في سَفَره عام ٢٧١ هـ لقتالِ خُمَاروَيْه، إضافةً إلى نُصُوصٍ أُخْرَى للسَّرْخَسِي من كتابِه المَسالِك والمَمَالِك، ورِسَالته في البحارِ؛ المفقُودِ أصْلُهُما، وكتابِ المسَالِك والممَالِك لمُحمَّد بن أحمد الجَيْهانِيّ، ومثلُها عَشَراتُ الكُتُبِ والرَّسائل والمجامِيع الَّتي تفرَّدَ المُصَنِّف بذِكْرها والنَّقْل عنها.
وعلى غِرار ما فَعَلَهُ أسْلافُه الحافِظَان: الخَطِيب البَغْدادِيّ وابن عَساكِر وغيرهما ممَّن اعْتَني بالتَّأْريخ البُلْدانيّ، فقد اقْتَصَرَ في كتابهِ على ما يتَّصِلُ بمَدِيْنةِ حَلَب وما يَتْبَعُ إليها من قُرَى ونَواحٍ دُونَ سِواها من حَواضِرَ وأقاليمِ الدَّوْلَة، وأشارَ إلى جانِبٍ من الخِطَّة الَّتي رَسَمها لنَفْسِه في عِدَّة مَواضعَ، فبعد أنْ عدَّدَ المواضِعَ الَّتي تَنْدَرج ضمنَ أعْمال حَلَب، قال (الجزء الأوَّل):
"فهذه المُدُنُ والثُّغُورُ الَّتي أوْرَدنا ذِكْرَها في هذا الفَصْل هي شَرْطُ كتابنا هذا، وقد بيَّنَا أنَّها من أعْمَال حَلَب، وإنْ وقعَ الاخْتلَافُ في بَعْضِها، فلا بُدَّ من ذِكْرِها في هذا الكتاب، وذِكْر ما وَرَد فيها، وذِكْر مَنْ دَخَلَها أو اجْتَازَ بها، أو كان من أهْلِها إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى".
وفي كَلامِه على الإقْليم الرَّابع بحَسَبِ تَقْسِيمات الجغرافيِّين، وهو الإقليمُ الَّذي تقَعُ حَلَب ضِمْنه، وعندَ نقله من جُغْرافيا بَطْلَمْيُوس، وما عدَّدَهُ من أسْماءِ المُدن