للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأخْبار، فلَم يَكُنْ حصَّادًا للأخْبارِ، جَمَّاعًا لها من المَصادرِ؛ يَحْشُرها دون تَمْحيصٍ ولا تَثَبُّتٍ، بل عَمِلَ على الانْتِقاءَ، والتَّقْليل من التَّكْرار من خلالِ الإحَالةِ على أخْبارٍ تقدَّمَ ذِكْرُها عندَه واتَّصَلتْ بأكْثَرَ من عَلَم. وغَلَبَ عليه طابعُ المُؤرِّخ المُدَقِّق، فامْتَازَ بنَظْرتهِ النَّقديَّة الفاحِصَةِ الصَّارِمَة، فلم يَكُنْ نَاقِلًا للنُّصُوصِ والرِّواياتِ فقط؛ بل نَاقِدًا لها، ومُعلِّقًا على ما يُؤكِّدُ أو يَنْفي كَلامَ مَن تَقَدَّمَهُ، وهو أيضًا يُصحِّحُ ويَعْترضُ ويُؤيِّدُ، ويَعْضُد الأقوالَ أو يُضَعِّفُها، كُلُّ ذلك يَكْشِفُ عن نَفَسٍ تَأْريخيٍّ عَميق، وسَعَةٍ في الاطِّلَاعَ، وفي النَّماذِج التَّالية ما يُغْني عن الشَّرْح:

ففي تَرْجَمةِ المُتَنَبِّي (الجُزء الثاني) نَقَلَ ابنُ العَديم نصًّا من رسَالةِ ابن القَارِح (دَوْخَلَة)، يَذُمّ فيه المُتَنبِّي، مُسْتَنِدًا في ذلك إلى كتابٍ في التَّاريِخ اجْتَمعَ على تأْليفِه ابنُ أبي الأزْهَر والقُطْرُبُّلِيّ، ومَضْمُونُه: "أنَّ الوَزِيرَ عليّ بن عِيسَى جلسَ للنَّظَرِ في المَظَالِم، وأحْضَرَ مَجْلسَهُ المُتَنَبِّي وكان مَحْبُوسًا ليُخلي سَبيلَه، فناظرَهُ بحَضْرَةِ القُضَاةِ والفُقَهَاء، فقال: أنا أحْمَدُ النَّبِيَّ، ولي علامةٌ في بَطْنِي، خاتَمُ النُّبُوَّةِ، وكشَفَ عن بَطْنِه وأراهُم شَبِيهًا بالسَّلْعَةِ على بَطْنهِ، فأمرَ الوَزيرُ بصَفْعِه فصُفِعَ مائة صفْعَة، وضَرَبه وقَيَّده، وأمَرَ بحبسهِ في المُطْبَق". وبعد أنْ عادَ ابنُ العَدِيم إلى كتابِ التَّاريخ المُشَارِ إليه، وجَدَ القصَّةَ في حَوَادثِ سَنَة ٣٠٢ هـ، فحقَّق المَسْألةَ بالقَول:

"فبانَ لي أنَّ أبا الحَسَن عليّ بن مَنْصُور الحَلَبِيّ [دَوْخَلَة]، رأى في تاريخ ابن أبي الأزْهَر والقُطْرُبُّلِيّ ذِكْرَ أحْمَدَ المُتَنَبِّي فظَنَّهُ أبا الطَّيِّب أحْمَد بن الحُسَين، فوقعَ في الغَلَطِ الفَاحِشِ لجَهْلهِ بالتَّاريخ، فإنَّ هذه الوَاقِعَةَ مَذْكُورَةٌ في هذا التَّاريخ في سَنَة اثْنَتَيْن وثَلاثِمائة، ولم يكُن المُتَنَبِّي وُلدَ بَعْدُ، فإنَّ مَولدَهُ على الصَّحيح في سَنَة ثَلاث وثَلاثِمائة، وقيل إنَّ مَولدَه سَنَةَ إحْدَى وثَلاثِمائة، فيكونُ له من العُمْر سَنَة واحدةٌ. وأبو مُحَمَّد عبد الله بن الحُسَين الكاتب القُطْرُبُّلِيّ، ومُحَمَّدُ بن أبي الأزْهَر ماتا جميعًا قبلَ أنْ يَتَرعرعَ المُتَنَبِّي ويُعْرَف.

<<  <  ج: ص:  >  >>