والسبِّ والضربِ من الأذى والإضرارِ ما يُوفي على التَّضجرِ، أثبتَ الحكمَ في المسكوتِ عنه بما عقَله من علّةِ المنطوقِ به، وهذا هو القياسُ بعينهِ -فليس بلازمٍ؛ لأنَّ هذا لغة وليس بقياسٍ؛ لأنَّ العرب إذا أرادت تركَ التطويلِ والمبالغةَ في الاختصارِ نبَّهت، فأتت بالتنبيهِ على ما زاد عليه، فإذا أرادت إزالةَ المنَّة قالت له: لا تَشرب له الماءَ من عطشٍ. فاكتفت بذلك عن ذكرِ أسباب المننِ، وإذا أرادت وصفَ إنسانٍ بالخَوَرِ والجُبنِ قالت: فُلان تُبكيه اللَّحظةُ (١) وتفزِعه اللفْظَة، ولهذا يوصل بقولها فضلاً عما زاد عليه. والذي يكشفُ ذلك أنَّ المعنى والقياس يحسنُ فيه الاستفهامُ ولا يحسنُ في الأولى الاستفهامُ، فإذا قال السيدُ لعبدِه: لا تَشرب لزيدٍ ماءً من عطشٍ.
فقال العبدُ: فآكُل من طعامِه؟ وأقبلُ عطاياه وهِباتِه؟ وإذا قال له: لا تَقُلْ لأبيكَ الكبيرِ الذي خَلفه الكِبرُ عندك: "أُفٍّ"، فقالَ الولدُ: هل أشتمه أو أضربه؟ لم يحسن ذلك، كما لو قالَ: لا تؤذِه بنوعٍ من أنواعِ الأذايا. وبمثله لو قال: لا تَبعِ الحِنطَةَ بالحنطةِ متفاضلاً، حَسُن أن يقولَ: فهل أبيعُ الشعيرَ بالشعيرِ متفاضلاً؟
فإن قيل: هذا القَدرُ لا يُعطي إلا أن التَنْبيهَ أوضَحُ وأكشفُ معنى، وهو عندنا قياسٌ جَليّ، فله رتبةٌ على القياسِ الخَفي.
قيل: هذا إقراو بأنه يسبقُ إلى الأفهامِ، ودعوى أنه قياس تسمية، وإلا فالقياسُ لا يُفهمُ إلا بأدنى فكرةٍ، وهذا يُعلمُ منه ما ذكرناه بأوَّلِ وهلةٍ وأسرعِ بادرة.
فمن قيل: لو كانَ مُستفاداً من اللفظِ؛ لكفاني يمينُ المنكرِ إذا ادعي عليه دينارٌ أن يقول: لا يَستحق علي حبةً. ولما احتاجَ أن يقولَ: لا يَستحق عينَ ما ادَعاه ولا شيئاً منه. عُلم أنَ ذكرَ الحبةِ ليس يستفادُ به الإنكارُ والنفيُ لفظاً، إذ لو كانَ كذلك؛ لكانَ قولُه: لا يَستحق عَليَّ حبَّةً. قائماً مقام قوله: لا يَستحق علي ما ادّعاه ولا شيئاً منه.
قيل: لم يكن هذا، لأنه ليس بمستفادٍ من طريقِ فحوى اللفظِ لا المعنى؛ لكن
(١) لحظ إليه: نظر بمؤخرة عينيه من أيِّ جانب كان، يميناً أو شمالا "اللسان": (الحظ).