واعلم أني لم أرِدْ بقولي أهلَ النَظَرِ المُتكلِّمينَ في عصرنا هذا، فإنما الكلامُ على صفةٍ متقدِّمةٍ، ولَئِنْ حَفِظْتَ وصيتي في ترك استعمالِ ما وصفتُ لك في هذا الباب إلا مع أهلِه، بل وصِيةَ المسيحِ عليه السلام السابقةَ لوصيتي؛ إذ يقولُ: لا تَبذُلُوا الحِكمةَ لغير أهلِها فتَظلِمُوها، ولاتَمنعُوها من أهلها فتَظلِمُوهم، ليَطُوَلنَّ صمتُك حتى تُضافَ إليه، ويزولَ عنك اسمُ الكلامِ. اللهم إلا أن تُحدَثَ قومَ سَوْءٍ ممن غَلَبَ على الكلام في هذا العصرِ.
فصل جامع
لقوانينِ الجدلِ وآدابِه
اعلم أن الجدلَ: هو الفَتْلُ للخصمِ عن المذهب بالمحاجَّةِ فيه، ولا يخلو أن يُفتَلَ عنه بحجَّةٍ أو شُبْهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فليس مما يُعتقَدُ به مذهبٌ.
ولا يخلو من أن يكونَ فَتْلاً على طريقة السؤالِ، أو على طريقة الجواب، وطريقةُ السؤالِ: الهدمُ للمذهب، كما أن طريقةَ الجوابِ: البناء للمذهب، لأن على المجيبِ أن يَبْنِيَ مذهبَه على الأصول الصحيحة، وعلى السائل أن يُعجِزَهُ عن ذلك، أو عن الانفصال عما يَلزَمُهُ عليه من الأمور الفاسدةِ، فأحدُهما مُعجِزٌ عن قيام الحُجةِ على المذهب، والآخرُ مُبينٌ لقيام الحجَّةِ عليه، وذلك مما يَدَّعيه كلُّ واحدٍ إلى أن يظهرَ ما يوجبُ استعلاءَ أحدِهما على الآخر بالحُجةِ.
وكلُّ جدلٍ فإنما يُحتاجُ إليه لأجل الخلافِ في المذهب، ولو ارتفع الخلافُ لم يَصِحَّ جدلٌ، وذلك أن السائلَ إذا لم يكنْ غرضُه