قالوا: النسخُ إنَّما يقصدُ به الأصلحُ والأنفعُ، والأقربُ إلى حصولِ الطاعةِ من خلقِه والاستجابةِ، وذلكَ إنَّما يحصلُ إذا نقلهم [من الأشَدِّ] إلى الأخفِّ، ومن الأصعبِ إلى الأسهلِ، وأما نقلُه لهم من الأسهلِ إلى الأثقلِ، فإنما يكونُ إضراراً، ثمَّ تنفيراً لهم عن الاستجابةِ، فيعودُ بضدِّ ما وُضعَ له النسخُ؛ لأنهم بالاستجابةِ يستضرونَ بالكُلْفةِ الصعبةِ، وبالمخالفةِ والنفورِ عن ذلك يستضرونَ بالمؤاخذةِ، فلم يكن للنسخِ على هذا الوصفِ وجه (١) في الحكمةِ، ولا مضاهاةٌ للوجه الشرعيَ، ولهذا قالَ تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: ١٥٩]، فإذا أَلانَ أخلاقَ النبيِّ؛ لئلا ينفروا عنه، وجبَ أن لا يُثْقِلَ التكليفَ بالنسخِ الأَسْهَلِ إلى الأصعبِ الأشقِّ، وأصلُ النسخِ إنما كانَ؛ لأنَّ المللَ يعتريهم، وأنَّ الأزمانَ تختلفُ في الأصلحِ، فلكلِّ وقتٍ حكمٌ وحالٌ غير الوقتِ الآخر.
فيقالُ: إنَّ المُراعى في النسخِ هو المُراعى في أصلِ التكليفِ، والتكليفُ في وضعهِ على الكُلْفةِ، ومراغمةِ النفس والهوى والشهوةِ، والتركُ هو الأسهلُ، والتخليةُ هي التي النفوسُ إَليها أميلُ، ثمَّ ابتداءُ التكليفِ كان بالإضافةِ إلى الإطلاقِ والتخليةِ أشقَّ وأصعبَ، فإذا جازَ أن ينقلَ من تخليةٍ وإطلاق إلى تقييدٍ، ومن بطالةٍ وراحة إلى عملٍ