وكل ما تستنطقُه مستذكِراً أو مستشهِداً فهو بمنزلةِ إنسان تطلبُ منه ذاك، إلا أن الفرقَ بين شهادةِ الإنسانِ وشهادةِ البُرْهانِ: أن شهادةَ البرهانِ لا تكونُ إلا حقَاً في نفسِه، والحق لا يشهدُ بباطل، وأما شهادةُ الِإنسانِ فلا يجبُ القطعُ بها؛ لأن الإِنسانَ قد يشهدُ بالباطلِ، ولكنْ لو شَهِدَ إنسان هو نبي لكانت شهادتُه كشهادةِ البرهانِ؛ لأن كلُّ واحدٍ منهما لا يشهدُ إلا بحقٍّ.
فأمَّا الاستذكارُ فلست تحتاجُ فيه إلى ثِقةِ المُذكَر؛ لأنك لا تعملُ على شهادتِه، وإنما تُمَكنُ بادِّكارِه مما تَحتاجُ إلى النًظَرِ فيه.
وكل استدلال فهو إثارة للمعنى، إلا أن منه ما يُثيرُه ببيانٍ يُوجِبُ بياناً، ومنه ما يُثير بما ليس ببيان إلا أنه يُوجِبُ بياناً، فالأولُ: كالبرهان، والثاني: كالإِنسانِ، وإيجابُ الأوَّلِ للثاني لا يخلو أن يكونَ من جهةِ أنه يفعلُه، أو يَحضُرُ بحضورِه إمَّا شاهداً به أو غيرَ شاهدٍ.
وكلُّ استدلال فإنه لا يخلو أن يكونَ بإيرادِ سؤال يقتضي جواباً، أو بإظهارِ أول يقتضي ثانياً أو يُوجِبُه؛ وذلك أن كلُّ استدلال فهو استخراجٌ لمعنى قد يَستخرجُه بالسؤالِ عنه، وقد يَستخرجُه بإظهارِ ما يَقتضِيه وُيوجِبُه.
فصل
وكل بابِ من أبواب الاستدلالِ فإنه لا بُد فيه من خمسةِ أشياءَ: مستدِلٍّ، واسَتدلالٍ، وَمستدَلٍّ به، ومستدَلٍّ من جهتِه (١)، ومستدَلٍّ
(١) لم يعرفه المصنف ضمن الحدود التي عرفها هنا، ولكن سيأتي بيان المراد به في الفصل التالي.