للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك الإنسانُ ينظرُ الشيءَ من بعيدٍ كالجملِ يراه صغيراً، ولا يزال يقرب منه أو يُصَمَّمُ التأمُّلَ فيه، حتى يعلمه جملاً، ولا يكونُ ذلكَ النظرُ علماً استدلالياً.

ومنها: أن قالوا: العلمُ لا يقعُ بأخبارِ الجماعةِ المعتبرين في التواترِ، إلا أن يكونوا على صفاتٍ تصحبهم، يُستدلُ بها على صدقِهِم، فصارَ كالعلمِ بحدث العالَمِ، وإثباتِ الصانعِ، لما احتاج (١) إلى تأملِ صفاتِ العالَمِ؛ من حركاته وسكناتِه، واجتماعاتهِ وتفرقاتهِ، وخروجهِ من هيئة إلى هيئةٍ، كان استدلاليّاً، كذلك ها هنا.

فيقال: إن الأخبارَ وإن اعتبر فيها صفاتُ [المخبرين]، إلا أنَّ العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار الصفاتِ، ألا ترى أنه قد يقعُ العلمُ لمن لا ينظرُ في الصفاتِ، ويخالفُ العلمَ الواقعَ عن النظر في العالم؛ فإنهَّ لا يقع إلا بعد النظر في المعاني، وهي الأعراضُ، والاستدلالِ بها، وفي الأخبار يقع من غير نظرٍ واعتبارٍ.

على أنَّ العلومَ الهندسيةَ لا بدَّ لها من مقدمات وسياقات جارية مجرى الصفاتِ ها هنا، ولا تدلُ على أن تلك علومٌ استدلاليةٌ، بل ضرورية، وكذلك دركُ الحواسِّ؛ لا بدَّ من اعتبارِ صحةٍ، وزوالِ موانعَ معترضةٍ لتحقُّقِ دَركِها، وإذا لم تكن الحواسُّ والمدارك على صفاتٍ مخصوصةٍ، لم تحصل الثقة في إدراكها، ولا يدلُّ ذلك على أنَّ الحاصلَ عن إدراكها ليس بضروري.

ومنها: أن قالوا: إنَّ الخبر الواقعَ من جهةِ الله سبحانَه وجهةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، لا يحصلُ به العلمُ إلا استدلالياً لا ضرورياً، فإحْبارُ مَن


(١) في الأصل: "احتاجت".

<<  <  ج: ص:  >  >>