للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اسْتِقلالُها دونَ مَحلِّها، وعقلاءُ العربِ ما نَطَقوا بعلةٍ إِلاَّ وطَرَدُوها في غير المَحَلِّ الذي أَضافُوها إِليه، فإذا قالوا: اضرِبْ هذا العبدَ الأَسْودَ الطَّويلَ؛ لأنَّه يُسِيءُ، اقْتَطَعُوا ذِكْرَ السّوادِ والطّولِ عن التعليلِ بالإِساءَةِ؛ لبيانِ أَنَّ الضَّربَ لإِساءَتِه، فكان ذكرُ السَّوادِ والطولِ للتعريفِ بالإساءة، فيُعقلُ مِن كلامِهم أَنَّ الإِساءَةَ إذا وُجِدَتْ من أَبيضَ قصير، أَوْجَبَت ضَرْبَه بحكمِ التعليلِ، وإِنِ انْعدَمَتْ صِفَتا التَّعريف.

فإن قيل: عِلَلُ الشَّرع أَماراتٌ كالأَسماء على المُسمَّياتِ، فلا يَبعُدُ أَنها محلّها إِلاَّ بِدَلالةٍ، وذلك أَنَّه يجوزُ أَن تكَونَ المفسدة في حلاوةِ السُّكَّرِ خاصَّةً، ولا تكونُ المفسدةُ في غيرِه من حلاوةِ تَمْرٍ أو عَسَلٍ، أَلا تَرى أَنَّه قد وَرَدَ بتحريمِ المَيْتَةِ؛ فكان الموتُ علةَ تحريمِ الشَّاةِ والبعيرِ والبقرةِ، ولم يَكُنْ علةً لتحريمِ السَّمكِ والجرادِ، ودم العُروقِ حُرِّم، ودمُ الكَبِدِ لم يُحرَّمْ، فلا يجوزُ والحالةُ هذه أَن يُعدَّى الحكمُ عن محلِّه إِلا بِدَلالةٍ تُوجِبُ التَّعدِيةَ؛ لأَنّنا لا نَأمنُ أَن تكونَ التعديةُ مَفسدةً.

قيل: لو أَرادَ ذلك لنصَّ على تحريمِ السُّكَّرِ؛ لأَنَّ السُّكَّرَ جامعُ لذاتٍ في جسمٍ مخصوصٍ بالحلاوةِ، فكانت حلاوتُه تابعةً، فلما أَفْرَد التعليلَ بذكرِه الحلاوةَ، أَوْجَبَ ذلك إِعمالَ التعليلِ، كما أَوْجَبَ إعمالُ ذكرِ المَيْتَةِ تحريمَ كُلِّ مَيْتٍ سوى ما استَثْناهُ النَّصُّ، وما ذَكَرْتُ من المَيْتةِ فهو الحُجَّةُ؛ لأنَّه لَمَّا حَرَّمَها عَمَّ كلَّ مَيْتَةِ إِلى اُن تَأتِ دلالةُ التخصيص.

ولو كان ما ذَكَرُوه صحيحاً، لكانت الثِّقةُ غيرَ حاصلةٍ بالقياسِ؛ لأنَّنا لا نَأنمَنُ أَن يكونَ جمعُنا بينَ النصوصِ والمسكوتِ بما يُعللُ به المنصوصُ

<<  <  ج: ص:  >  >>