للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحسانه واجباً؛ فإنْ كانَ واجباً، لم يَجِبْ شكرُهُ؛ لأَنَّ الواجبَ، كقضاء الدَّينِ، ورفع المضرَّةِ عنِ الغيرِ، وكفّ الأذى عنْهُ، والعقلاءُ يقبِّحونَ شكرً الإنسانِ على أَنه لم يؤْذِهم في مالٍ ولا نفسٍ، فلو قالَ قائل: قوموا بنا نَشْكر فلاناً؛ كيفَ لم يَنهَبْ أموالَنا، ولم يَحرِق منازلَنا، ولم يحرقْ ثيابَنا، لاستُهجِنَ ذلكَ، [و] حيثُ كانَ كفُّ الأَذى واجباً، قَبُحَ الشُّكر عليهِ، كذلكَ قضاءُ الدَّينِ لمَّا كانَ واجباً، لمْ يجبِ الشُّكرُ عليهِ، بلِ استُهجنَ الشُّكرُ عليهِ. وإنْ كانَ بإحسانِهِ متبرِّعاً فإيجابُ (١) الشكرِ كإيجابِ دفع العوضِ، فإنَّ الشُّكرَ يقعُ عوضاً، كما أنَّ ذمَّ المسيءِ يقعُ عقوبةً، ولهذا جعلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالاستيفاءِ لبعض الحقِّ، والتخفيفِ عن المُجرِمِ، فقالَ لعائشةَ لما ذَمت، ودَعَتْ على سارقِ غزلِها: "لا تُسَبِّخِي عنه" (٢)، قال أبو عبيد (٣): يعني تُخففي عنه. ومتى وجبَ الشكرُ على إحسانِ المتبرع بهِ، خرج عن كونِهِ إحساناً، وصارَ عوضاً وتجارةً، ومَنْ ندبَ نفسَهُ لبيع الأموالِ طلباً للأثمانِ، ومَنْ تَنوَّقَ في المأكولاتِ لبيعها كالهراسِ والمراقِ والحلاوي، لمْ يُعَدَّ محسناً، بل تاجراً وطالباً للأثمانِ، كذلك من أَحْسَنَ وأَوْجب (٤) أن يُقابل، صارَ بالإيجابِ لمقابلتِه تاجراً، وخرجَ عنْ تَمحُّضِ


(١) في الأصل: "فانجاف".
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة ١٠/ ٣٤٨، وأبو داود (١٤٩٧) و (٤٩٠٩)، والبغوي في "شرخ السنة" ٥/ ١٥٤.
(٣) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي ١/ ٣٣.
(٤) في الأصل: "تجب".

<<  <  ج: ص:  >  >>