والدليلُ على أن هذا الضَرْبَ انقطاعٌ أيضاً: أن المجيبَ لَمَّا ابتدأ بالِإثباتِ، كان قد ضَمِنَ على نفسه تحقيقه، والدَّلالةَ على صِحَّتِه، وبناءَ سائرِ الجوابِ عليه، وملاءمةَ ما يُورِدُه بعده له، فإذا نفاه فقد عَجِزَ عن تصحيح ما ضَمِنَه من ذلك على نفسه، وافتقرَ إلى نَقْضِه عند الِإياسِ من صحَّته.
وصاحبُ هذا الضَّرْب أحسنُ حالًا من المُباهِتِ؛ لأن الرجوعَ عن الباطل عند انكشافِه أحسَنُ من المكابرة، والرجوعُ الى حقِّ حَسَنٌ جميلٌ، ولا عَيْبَ في العجز عن نُصرةِ الباطلِ، كما لا عَيْبَ في الرجوع عنه، بل شائنةُ العيبِ الشروعُ في نُصرتِه.
والضَّرْبُ الرابعُ: الانتقال عن الاعتلال بشيءٍ إلى الاعتلال بغيره.
والدَّلالةُ على أن هذا الضربَ انقطاعٌ: أن المُعتَلَّ إذا ابتدأَ بعِلَّةٍ، فقد ضَمِنَ على نفسه تصحيحَ مذهبِه بها وبما تَفرَّعَ منها، وذلك أنه لم يَعتَلَّ بها إلا وهي عنده صحيحةٌ مُصحِّحه لِمَا اعتلَّ له، فإذا انتقلَ عنها إلى غيرها، فقد عَجِزَ عن الوفاءِ بما وعدَ والإِيفاءِ لِمَا ضَمِنَ، وافتقرَ إلى غيرها لتقصيرِه عما ظنَّه بها.
فإن قيل: فقد انتقلَ إبراهيمُ -عليه السلام- من عِلَّةٍ إلى غيرها وكان في مقامِ المُحاجَّةِ كما أخبر اللهُ سبحانه عنه (١)، وبهذا تعلَّقَ مَنْ
(١) وذلك في قوله تعالى في سورة البقرة، [الأية: ٢٥٨] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي =