عند أهلِ الجدلِ، وبانَتْ منه القُوَّةُ على نفسه حيثُ منعَها المقابلةَ على الجفاءِ بمثله، والقُوًّةُ على خصمه حيثُ أحوَجَه إلى الشَّغْب، لا سِيَّما إذا ظهرَ منه أنه فعلَ ذلك حِرْصاً على الإِرشاد إلى الحَق، ومَحبَّةً للاستنقاذ من الباطل الذي أَثارَتْهُ الشُّبهةُ من الضلال المُؤَدِّي بصاحبه إلى العَطَبِ والهلاكِ، فله بهذه النِّيَّةِ الجميلةِ الثَّوابُ من ربِّه، والمِدْحَةُ من كلِّ مُنصِفٍ حضرَه أو سَمعَ به.
وإذا كان المجلسُ مَجلِسَ عَصَبِيَّةٍ على أحد الخصمين بالتخليط عليه، وقَل فيه التمكُّنُ من الِإنصافِ، فينبغي أن يحذرَ من الكلام فيه، فإنما ذلك إثارةٌ للطباعِ وجَلْب للإِفحاش، وُيفضِي إلى انقطاع القويِّ المُنصِفِ بما يتداخلُه من الغضب والغَمِّ المانِعَين (١) له من صِحَّةِ النَّظَرِ والصَّاديْنِ له من طريق العلم.
وكلُّ صناعةٍ فإن العلمَ بها غيرُ الجدلِ فيها، وذلك أن العلمَ بها: هو المعرفةُ بجواب مسائلِ الفُتْيا فيها التي تُرَدُّ إلى المُصادرَةِ لها، فأمَّا الجدل: فإنما هو الحِجاجُ في مسائل الخلافِ منها، فالعلمُ صناعةٌ، والجدلُ صناعةٌ، إلا أن العلمَ مادَّةُ الجدلِ، لأن الجدلَ بغير علمٍ بالحُجًةِ والشُّبهةِ فإنما هو شَغْب، وإنما الاعتمادُ في الجدلِ على إقامةِ الحجَّةِ أو حَلِّ الشُّبهةِ فيما وقعَتْ فيه مُخالفَةٌ.
وإذا كان الجدلُ قد صَدَّ عنه آفةٌ عرَضَتْ لبعض من هو محتاجٌ إليه، فينبغي أن يعملَ في إزالة تلك الآمةِ؛ ليرتفعَ الصادُّ عنه، وتظهرَ للنَّفْسِ الحاجةُ إليه ومقدارُ المنفعةِ به.