للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قادرينَ، وكان في قوةِ خلقِهم وصحةِ قرائِحهم تواضعُ صورٍ اكتسبوها في الأجسامِ، بحسب دواعيهم وعوارضِ حوائِجهم، مثلُ نجارةِ الباب والدولاب، وصناعةِ الَسيفِ والمنشارِ، وفتلِ الحبالِ أسباباً موصلةً إلىَ إصعادِ الَمياهِ من قعورِ الآبارِ، وأشباهِ ذلك، كان في قوةِ ما وضعهُ فيهم من النطقِ، أنْ يصوغوا من الأصواتِ والحروف صيغاً توصلُهم إلى الأغراضِ من التفاهمِ والتخاطب، بما يعرضُ لهم من الدواعي الواقعةِ من بعضِ إلى بعضٍ، واستعانةِ بعضِهم ببعضٍ.

وقد قال العقلاءُ الأولُ: الحاجةُ تفتق الحيلةَ. وهذا كلام حسن، لأنَّ الدواعيَ إلى الأشياءِ تحملُ الحى على التوصلِ، فالجائعُ يدري كيفَ يُحصِّلُ الطعامَ، ولعلَّ الحاجةَ إلى الطعام تفتحُ له أبواباً لتحصيلهِ، ولذلكَ ترى أولادَ المترَفين أبطأ في الشهامَةِ والفراهةِ من أولادِ المرتادين للمعاشِ، لما وطنوا أنفسَهم عليه من الغنى بغيرهمِ عنهم، ولله في خلقِه جواهرُ كامنةٌ أصليةٌ لا تظهرُها إلا حاجتُهم ولا تكشفُها إلا ضرورتُهم.

ولما كان من ضرورةِ الأحياءِ إلى التفاهمِ والتخاطبِ، كما كان من- ضرورتِهم تحصيلُ المآكلِ والمشارب وجميعِ المآربِ، وكان فْي قريحتهم ما يحصلونَ به أغراضَهم من أنوَاعِ حاجاتِهم من غير تقديم تعليمٍ، ولاتفهيمٍ من غيرِهم لهم، كانَ في قوةِ نطقهم ما يلجئهم إلىَ مواضعةِ ما احتاجوا إليه من التخاطب للتفاهِم، إذ كانت حاجةُ بعضِهم إلى بعضٍ، كحاجةِ الحى إلى ماَ يستمدهُ للبقاءِ من تناولِ الشراب والغذاءِ والوطاء والوِقَاءِ والكن (١) ودفعِ الأذى، وغيرِ ذلك من الأوطارِ (٢).


(١) الكِن: وقاءُكلِّ شيءٍ وستره.
(٢) في الأصل: "عن الأوطان".

<<  <  ج: ص:  >  >>