للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان من أكْفَى الكُفَاةِ، والسُّلْطان من أعْدَل الوُلَاةِ، فصَفَى العَيْشُ، واطَّرَدَت التِّجَارَاتُ، وأهلت الطُّرُق، وقَلَّ أهْلُ العَيْث والفَسَادِ، وأخَذَ الوَزِير في بَذْلِ الصِّلَاتِ، وبناءَ المَدَارِس والمَسَاجِدِ والرِّباطَاتِ، وتَحْصِيْن العمَارات بالأوْقَاف الدَّارَّة، وتَزْييْن المَدَارِس بخَزَائن الكُتُب المُوْدَعَة فيها، المُشْتَملَة على نَفَائِس الأعْلَاق، ثمّ إسْكَان البِقَاعِ طَلَبة العِلْم والمُدَرِّسيْن في كُلِّ فَنٍّ من الفُنُون، وكُلّ ذلك من الأسْبَاب المُوثقَة للمُلكِ والبُذُور.

حتَّى انْقَضَت النَّوْبَةُ للسُّلْطَان أبْى أَرَسْلَان بعد اسْتِكْمَال عَشْر سِنِيْن، إلى سَنَة خَمْسٍ وسِتِّين وأرْبَعِمائة، وطَلعَ نَجْمُ الدَّوْلَةِ المَلِكْشَاهِيَّة، وظَهَرَت كفَايَةُ نِظَام المُلْكِ -بَعْدَ تَقْدير اللَّه- في تَقْرِير تلكَ المَمْلَكَة، مع اتِّفَاق الوَقْعَةِ الهَائِلَةِ للسُّلْطَانِ عند قَصْدِهم مَا وَرَاء النَّهْر، وطَغَاء الخُصُوم اللُّدّ من كلِّ ناحيةٍ، وتَزَاحمِ الأوْلَاد المُسْتَعْدِّين للمُلْك، حتّى توطَّدَتْ أسْبَاب الدَّولَهِ، واسْتَقَامَ الأمرُ، فصارَ المُلْكُ حَقِيْقَة لنِظَامهِ، ورَسْمًا واسْمًا للسُّلْطَانِ، فما كان له إلَّا إقامَة رسْم التَّخْت والاشْتِغَال باللَّهْو والصَّيْد، وكان يُحْمَل إليه الأحْمَال المَجْلُوبَة من الأقْطَار، والدَّهْر وَسْنَان، والسَّعْد جَذْلَان، والنَّحْسُ خَزْيَان.

واسْتَمرَّ على ذلك عِشْرُون سَنَةً، اتَّفَقَتْ لهم فيها غَزَواتُ إلى الرُّوم، وظَفر منها بطُرَف الدُّنْيا من الأمْوَال، والعَبِيْد، والدَّوَابّ وغيرها، ثمّ نَهْضَات إلى المَوْصِل وحَلَب وتلك الدِّيَار، وحَرَكَاتٌ إلى مَا وَرَاء النَّهْر، وكان في أثناءِ ذلك ظُهُور خصُوم من الأطْرَاف يَتَمنَّون أمَانيَّ فلا يُدْرِكُونها، ويَتَحرَّكُون عن مَوَاضِعهم، وكانت عَاقِبَتُهم تَؤُول إلى أنَّهم يتَرْكُونها، وكُلّ ذلك بكَمال كِفَايَةِ نِظَام المُلْك، وتَمْهِيده القَوَاعِد، وبَركَة أيَّامهِ، وسَعَادَة جَدِّه، إلى أنْ انْتَهى الحال إلى الكَمَال، فما رَضيَت تلك النَّوْبَة المُبارَكة، والدَّوْلة المَيْمُونَة إلَّا وأنْ تُخْتَم بعَاقبةٍ تليقُ بها، وما كانت إلَّا الشَّهَادَة؛ فأدْرَكَهُ قضاءُ اللَّهِ في شهر رَمَضَان صَائمًا شَهِيْدًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>