للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تركِ إجابةِ النداءِ، فإذا نادى عبدَه زيداً: يا زيدٌ، فلم يُجبْهُ مع قدرتهِ على الجواب كان مُهَوناً، فإذا قيل: يا زيدُ أقبِل، فلم يُقبلَ كان عاصياً، فلو لم تكنَ صيغةُ النداء تقتضي الإجابةَ وصيغةُ أقبِلْ تقتضي الطاعةَ حتماً، لَما حَسُنَ عقوبةُ العبدِ على تَرْكِها، لأن الذم والعقابَ لا يحسنانِ إلا على تركِ اللازِم الواجب، ألا ترى أن قولَه: أقْبِلْ إنْ شئْتَ أوْ إنْ أحببت لما كان أمراً موسعَاً، لا جَرَم قَبُحَ العَتَبُ والتَوْيِيخُ والعقابُ على تركِ ما استدعاهُ منه، ولم يحسُن أن يُسمَّى بتركِ ما استُدْعِيَ منه: عاصياً ولا مخالفاً.

وما يَدُل على ذلك: أن قولَ القائلِ لعبده، والأعلى للأدنى في الجملة: كُن في هذا المكانِ، هو حَصْرٌ له، وقَصْرٌ على المكانِ الذي أمَرَهُ بالكوْنِ فيه، ومَنْعٌ عن التَفَسحِ في غيرِ المكانِ الذي أمَرَه بالكوْنِ فيه، فمدَّعِي الندب ونفي الوجوب في الجملةِ يدَّعي توسعة في حق المأمور، لا أثَرَ لها في لفظ الأمَرِ وصيغتِهِ، ومدَّعِي الوقف يعطَلُ الصيغةَ عن فائدةٍ رأساً، وليس ذلك دَأبَ العربِ.

ومما استدل به بعضُ من وافقنا: أن العَرَب وضَعَت للخَبَرِ جواباً، وللأمْرِ جواباً، فقالوا في جواب الخبر: صدقتَ أو كذبت، وفي جواب الأمر: أطَعْتَ أو عَصَيْتَ. ولا تَضَعُ العصيانَ اسماً للمخالفةِ، إلا وقد ضمَّنت الأمرَ المطلقَ، انحتامَ الامتثالِ لما أمرتْ به.

ومما يدلُّ على اقتضائِها الإيجابَ، من جهةِ أَن العربَ وضَعَت لفظة: (افعل) لاستدعاء الفِعْلِ، كما وضعتْا لفظة: (لا تفعل) لاستدعاءِ التركِ، واستدعاءُ التركِ حتمٌ لا تَخييرَ فيه ولا توسعةَ، بل يقتضي بمجرد إيجاب

<<  <  ج: ص:  >  >>