للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالحقِّ، لكن أكَّد الحقيقةَ بالحقيقةِ، لما قد يُستعانُ في ذلكَ من المجازِ، وأنَّه قد يقالُ: دخلَ السلطانُ البلدَ. وإن كانَ الداخلُ إليه عسكرُه أو رَحلُه وثَقَلُه (١)، وكذلكَ قولُهم: قد سكنَ زيدٌ الدارَ الفلانيةَ. ويُراد به نفسه، ويحسُنُ أن يقالَ: سكنها بنفسِه.

دفعاَ لتوهُّمِ الاستعارةِ في ذلكَ، وأن يكونَ سكنها بمعنى أنه نَقل إليها رحله وأهلَه، وإن لم ينتقل بنفسِه، فهذا الأمرُ لا يجحدُه إلا مُكابرٌ أو جاهلٌ باللغةِ.

وأمَّا قولُهم: كُل مَن أكرمني أكرَمْتُه. ولم يقل: أكرمتهم؛ لأنَّ كُلّ ها هنا دخلت بمعنى: أيّ النَاسِ أكرمني أكرمتُه. والوحدةُ ها هنا أبلغُ من الجمعِ؛ لأنَّ قوله: كُل مَن لفظةُ كُلّ معطوفٌ عليها (مَن)، ومعطوفٌ عليها: كل نفسٍ، وكل إنسانٍ، فعاد التأحيدُ إلى التأحيدِ، ولا يحسُنُ: كل نفسٍ بما كسبوا، وكُلّ نفسٍ ذائقون الموت، وإن جاز فالتأحيدُ أحسنُ مساغاً، كقوله: {رَهِينَةٌ} و {ذَائِقَةُ}، وأكرمتُه إلى لفظِ الواحدِ؛ لأنَه أبلغُ؛ لأنَّ إكرامَ الواحدِ من الكُل مع دخولِ الكُل على الآحاد يعطي إكرامَ (٢) الكُل والآحادِ، وأن تكونَ كلُّ النفوسِ وآحادها رهينةً وذائقةً للموت، فصار المعنى: أيُ النفوسِ كَسَبت؛ فهي رهينة بكسبها، وأيُ الرجال أكرمني أكرمته.

وأمَّا قولهم: إنَ التأكيدَ يعطي ضدَّ ما أردتم، وإنه لو اقتضى اللفظُ الأولُ العمومَ لما احتيج إلى الثاني، ولما حَسُن عطفُه. فغلطٌ؛ لأنَّ التأكيدَ إنما دخلَ لنفي التوسع، والمجازِ، ولَّما كان أهلُ اللغةِ قد يتوسّعونَ بالمجارِ فيقولون في حق المعظَيم: جاءني كلُّ بني تميم. والمرادُ: أكثرُهم، والمجازُ لا يؤكَّد، أدخُلوا التأكيدَ لدفعِ التجوز والتوسع، فقالوا: أجمعينَ، أكتعينَ، أبْصعين، حتى لا يبقى توهُّمٌ للمجازِ والتوسُعِ، مثلُ قولهم: حمارٌ نهَاق ذو أربع. يُزيلونَ بالتأكيدِ توهُّمَ الرجلِ البليدِ.

والذي يدُلُّ على أنَ التأكيدَ يعطي ما ذكرنا: أنه لا يحسنُ أن نقولَ: رأيتُ زيداً


(١) الثقل: متاع المسافر وحشمه."اللسان": (ثقل).
(٢) في الاصل:"أكرم"، والمثبت أنسب للسياق.

<<  <  ج: ص:  >  >>