للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بطريقِ العقل أو السمع، والعقلُ يمنعُ من أن يقْدِمَ الإنسانُ على إيجابِ فعلٍ ما لأجل وقوعِه من غيره، مع ثبوتِ العلمِ باختلافِ (١) أحوال الناس في المصالح والمفاسد في بابِ الأديان، كاختلافِهم في بابِ الأمزجةِ والأبدانِ، وكما أنَّ مزاجَ بعضِهم يقتضي تناولَ الحموضاتِ والمسهِّلاتِ من المآكلِ والمشارب، ومزاجَ آخرين يقتضي تناولَ الحلوِ أو المرِّ، فلا يُجَوِّزُ العقلُ أن ينزَّلَ الإنسانُ في ذلكَ على قالبِ غيرِه، كذلكَ وجدنا أنَّ الشرع خَالَفَ وفاوتَ بين الأشخاصِ بحسبِ اختلافِ أحوالِهم، فما يُسْتَرُ من الحُرَّة يُكْشَفُ مِن الأَمَةِ، وما يكونُ قُرْبةً من المُقيمِ الصحيح، يكونُ ضدُّه هو القُرْبةَ في حقِّ المسافرِ والمريضِ، وعلى هذا الَاختلاف، فهذا يعطِّلُ دليلَ العَقْلِ عن إيجابِ الاتِّباع للغَيْرِ، إلا بدلالةٍ تدُلُّ على الموافقةِ من عندِ من يعلمُ المصالحَ، واَلسمعُ لم (٢) يَرِدْ بوجوبِ مثلِ ما فعلَه علينا، وإذا تَعَذَّر دليلُ الإيجابِ، بطلَ القولُ بالوجوب.

فيقال: إنَّ ورودَ هذا من القائلِ بالندبِ، لم يصحَّ، وإن وردَ من القائلِ بالوقفِ، فإنَّه أيضاً لا يصحُّ؛ من حيثُ إنه وإن نفى الندبَ والإيجابَ، فما (٣) نفى جوازَ الصلاةِ والصيامِ والطوافِ وغيرِ ذلك مِمَّن رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفعلُ ذلك، وتجويزُ المفسدة كان يجبُ أن يَمنعَ استواءَ المكلفين في حكمٍ واحدٍ -سواء كان ندباً، أو إيجاباً، أو وقفاً-، لِمَا ذكرت من اختلافِ أحوالِهم، كما يُمنعُ الإنسان من اتباعِ غيره، في شربِ دواء، أو أكل غِذاء، مع وجودِ مخالفةِ تأثيرِ


(١) في الأصل: "بالاختلاف".
(٢) في الأصل: "فلم".
(٣) في الأصل: "فيما".

<<  <  ج: ص:  >  >>